الضربة "العقلانية" الإيرانية
لا يمكن تقليل ولا تضخيم ما قامت به إيران يوم السبت الماضي عبر إطلاق مجموعة من الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل ردّاً على استهداف القنصليّة الإيرانية في دمشق. كانت الضربة محسوبة بدقّة، بحيث لا تجر ردود فعل أوسع. أخذت الحسابات الإيرانية أشكالاً عديدة، بداية من الاتصالات والتبليغ قبل 48 ساعة من الهجوم، وهو ما اتّضح لاحقاً عبر تسريباتٍ أفادت بأن طهران أطلعت أنقرة على موعد الضربة، والتي بدورها أوصلت الرسالة إلى واشنطن. وإن لم يكن ذلك كافياً فإن طهران أعلنت مع إطلاق مقذوفاتها عن موعد وصولها، سواء بالنسبة إلى الطائرات المسيّرة أو صواريخ كروز، ما أتاح مجالاً لاعتراضها قبل سقوطها.
كثيرة التعليقات التي سخرت من الهجوم الإيراني، على اعتبار أنه "مسرحية منسقّة"، لكن لا يمكن إلا النظر إليه على أنه سابقة في تاريخ الصراع في المنطقة. فهي المرّة الأولى التي توجّه فيها طهران ضربة مباشرة، وليس عبر وكلاء، إلى إسرائيل. طهران كانت مجبرة على الرد، بعد الاستهداف المباشر لأراضيها ممثلة بالقنصلية، لكنها في الوقت نفسه ليست راغبة في الدخول بحرب واسعة تفقدها المنجزات التي حققتها في المنطقة خلال العقود الماضية، وبالتالي، كانت حريصة على ألا يكون الرد كبيراً، رغم إطلاق نحو 300 مقذوف باتجاه إسرائيل، لم يصل منها إلا تسعة.
دفعت هذه الحصيلة كثيرين إلى التشكيك بالصناعة العسكرية الإيرانية. وفي الواقع، لا يعكس الهجوم حقيقة القدرة الحربية الإيرانية المتراكمة على مدى عقود، بل على العكس هو يعطي مؤشّراً إلى تطور في الأسلحة الإيرانية التي استطاعت إصابة أكثر من قاعدة عسكرية إسرائيلية، بحسب ما كشفت الصحف العبرية، رغم محاولة الاحتلال نفي ذلك، وهو أمر سيكون في حسابات القيادات العسكرية الإسرائيلية والأميركية في تقديرات أي مواجهة مقبلة مع إيران في المستقبل.
وكما لا يمكن السخرية من الهجوم، كذلك لا يجب المبالغة في أهميته، فرغم أن طهران دخلت للمرّة الأولى بشكل مباشر في المواجهة مع إسرائيل، إلا أنها، في الوقت نفسه، لم تقدم على هذه الخطوة قبل التأكد من أنها لن تؤدّي إلى رد فعل يوصل إلى حرب استنزافٍ تكون إيران فيها طرفاً بشكل مباشر، وهو فعلياً ما تحقق، فالرد الإيراني والأضرار القليلة التي أحدثها رفعا الحرج عن طهران أمام حلفائها، من دون أن يقودها إلى سيناريو لا يرغب به أحد، سيّما الولايات المتحدة.
فمع انقضاء الساعات الأولى من الهجوم، حرصت واشنطن على اعتبار أن الرد الإيراني عقلاني. وبالتالي، لا يستدعي رداً إسرائيلياً، وهو ما أوصلته إلى دولة الاحتلال. ورغم الحديث في إسرائيل عن التحضير لشيءٍ ما ضد إيران، فإنه مرتبط بـ"الوقت المناسب"، وهو بالتأكيد ليس الآن، ومن المستبعد أن يكون أيضاً داخل الأراضي الإيرانية، وهو يفتح الباب أمام دائرة الردّ المضاد، وهو ما لا يرغب به حلفاء إسرائيل والداعمون لها، والذين ساهموا في صد الهجوم الإيراني الأول.
من الممكن القول إن معادلة الكل رابح تحققت من الهجوم الذي نفذته إيران ضد إسرائيل، بداية من طهران التي أثبتت أنها قادرة على تنفيذ تهديداتها، بعد سنوات من الاستهداف الإسرائيلي لها في سورية ولبنان، وأنها تمتلك قدرات عسكرية بإمكانها الوصول إلى أراضي "العدو"، وهو ما لم يكن قد تم اختباره في السابق. في المقابل، فإن إسرائيل أيضاً يمكن أن تكون رابحة، إذ إنها اختبرت حلفاءها في صد الهجوم الإيراني، وهو أمر أيضاً يحدُث للمرة الأولى. فرغم الدعم الكبير الذي تعلنه الدول الغربية لدولة الاحتلال، فإنها لم يسبق أن اضطرت إلى التدخل بشكل مباشر لتأمين الحماية لإسرائيل كما حصل أخيراً.