الصين والقضية الفلسطينية

23 مايو 2021
+ الخط -

بدا الموقف الصيني في مجلس الأمن، أخيرا، إزاء الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزّة، مميزاً وغير مسبوق منذ أبرمت الصين علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" في 1992؛ أي بعد شهور من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام أواخر العام الذي سبقه، ففي هذه المرّة التي تصادفت وتوليها الرئاسة الدورية لمجلس الأمن، أظهرت الصين انحيازاً إنسانياً واضحاً إلى جانب الشعب الفلسطيني، بشكل سلّط الضوء على سعي الولايات المتحدة غير مرة إلى تعطيل إصدار بيان رسمي من المجلس يدعو إلى وقف إطلاق النار، من جهة، وقدّم الصين، من جهة أخرى، دولة كبرى تتحمل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية تجاه مناطق الصراع في العالم.

صحيحٌ أن الصين ربما اغتنمت الفرصة لإحراج الولايات المتحدة التي ما تزال تتعمّد إدانة الصين في مسألة مسلمي مقاطعة شينجيانغ من الإيغور، كي تظهر أن الإدانة الأخلاقية تلحق الولايات المتحدة أيضاً، لكن هذا لا ينفي أن الصين تبنّت موقفاً مسؤولاً حقاً، يمكن للعرب البناء عليه لاحقاً من أجل إحراز مزيد من التوازن في المحافل الدولية إزاء القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

كي نفهم موقف الصين اليوم من القضية الفلسطينية، وكيفية البناء عليه، ربما يكون مفيداً أن نراجع، بتكثيف تاريخي، تطور سياسة الصين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. لقد مثّل مؤتمر الدول الآفروآسيوية، في باندونغ بإندونيسيا في إبريل/ نيسان 1955، بحضور 29 دولة، نقطة تحوّل في دور الصين العالمي، بما في ذلك دورها تجاه القضية الفلسطينية، خصوصا لأن نسبة كبيرة من الدول المشاركة كانت عربية وإسلامية، إذ تنبّه الصينيون للقوة العددية التي يمثلها العرب والمسلمون. ترأس رئيس مجلس الدولة، شو إن لاي، الوفد الصيني إلى المؤتمر، وهناك عقد عدة اجتماعات مع قادة الوفود المشاركة، منها اجتماع مع الوفد السوري الذي كان أحمد الشقيري، الذي صار فيما بعد أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، عضواً فيه، فأطلع شو على تفاصيل القضية الفلسطينية وتاريخها، كما لعب الرئيس جمال عبد الناصر دوراً كبيراً في إبراز القضية الفلسطينية أمام المؤتمر.

لم تفلح الصين في لعب دور الوسيط السياسي بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي عقب تعثر مفاوضات السلام

خلال الثورة الثقافية في الصين (1966-1976)، التي اتجهت فيها القيادة الصينية لعزل البلاد عن العالم الخارجي، اعتنق ماو تسي تونغ نظرية "العوالم الثلاثة"، ومفادها بأن الدول تنقسم إلى ثلاثة: يضم العالم الأول الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ويضم الثاني أوروبا الصناعية واليابان وكندا، ويضم الثالث بقية الدول، وفي مقدمتها الصين. وعلى هذا، ظل ماو يعتبر الصين جزءاً من العالم النامي، فيما بات الاتحاد السوفييتي، في نظره، دولة عظمى تُنافس الولايات المتحدة على الهيمنة العالمية. وهكذا كانت "العوالم الثلاثة" نظريةً مبنيةً على أساس الصراع الطبقي في العالم، بين الإمبريالية والثورة البروليتارية، فرأى ماو أن "على البروليتاريا عندما تخوض الصراع العالمي أن تتحد مع جميع الذين يمكن الاتحاد معهم بحسب الضرورة والإمكان، في المراحل التاريخية المختلفة، لتطوير القوى التقدّمية وكسب قوى الوسط وعزل القوى المتعنّتة". ومعنى هذا أن تحالفات الصين في العالم يجب تقييمها باستمرار، بما يخدم البعد الوطني، لا الأممي، الذي يتبنّاه الحزب الشيوعي الصيني. وفي تلك المرحلة، كان "العالم الثالث" الحليف الطبيعي للصين، كونه "يشكل القوة الرئيسية في النضال العالمي ضد هيمنة الدولتين العظميين وضد الإمبريالية والاستعمار"، ذلك أن دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي حصلت على استقلالها في تلك الفترة كانت، وفقاً للرؤية الصينية، القوة الأساسية في النضال ضد الإمبريالية لمرحلة تاريخية طويلة، لأن استقلالها في ذلك الوقت لم يكن سياسياً واقتصادياً كاملاً.

اتجهت الصين نحو البراغماتية، عقب اتباعها "سياسة الإصلاح والانفتاح" انطلاقاً من عام 1978، في عهد دينغ شياو بينغ. وفي هذه الأجواء، تمكنت الصين من الجمع بين مواصلة الانحياز لحقوق الشعب الفلسطيني، وإقامة علاقات وثيقة مع إسرائيل، فقد اعترفت بالدولة الفلسطينية التي أعلنتها منظمة التحرير عام 1988 في الجزائر. وبعد أربع سنوات، أقامت علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية، مكّنتها على مدار السنوات التالية من إبرام صفقات لشراء تكنولوجيا عسكرية غربية متطورة، كانت حصلت عليها إسرائيل من الولايات المتحدة ودول أخرى، وهي صفقات جرى معظمها سرّاً، وأثارت غضب الولايات المتحدة عند الكشف عنها.

يمكن الاستنجاد بالصين لاتخاذ مواقف أخلاقية في الصراع مع إسرائيل، وستكون الصين مسرورة بهذا الدور

على الرغم من هذه البراغماتية، لم تفلح الصين في لعب دور الوسيط السياسي بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي عقب تعثر مفاوضات السلام، لأن إسرائيل ظلت تعرقل تمكينها من هذا الدور. وأشهر الأمثلة على ذلك عدم استجابة حكومة تل أبيب لمساعي الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لعقد اجتماع في بكين عام 2013 بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهذا يعني أن العلاقات التجارية والعسكرية الواسعة بين الصين وإسرائيل معزولة عن المواقف والانحيازات السياسية، كما يعني أن إسرائيل تدرك أن الصين لن تكون منحازة لها كما هو حال الولايات المتحدة، فيما لو تدخلت في الصراع العربي الإسرائيلي، ولن تتبنّى مواقفها وتدعم سياساتها الاستيطانية والتوسعية على حساب الشعب الفلسطيني.

والحال أن ثمة تلاقياً للمصالح بين العرب الذين يتبنون القضية الفلسطينية والصين، إذ بينما تحتاج الصين أن تتدخل في القضايا الدولية، بغرض إحراج الولايات المتحدة، يحتاج الفلسطينيون والعرب الداعمون لهم قوةً دوليةً تساعدهم في الضغط على الولايات المتحدة لتعديل سلوكها المنحاز وغير الموضوعي. وهكذا، يجب ألا يمر الموقف الصيني في مجلس الأمن، قبل أيام، والذي شرحه وزير الخارجية، وانغ يي، بأنه "قيام الصين بمسؤولياتها وواجباتها"، مرور الكرام، إذ يمكن الاستنجاد بالصين لاتخاذ مواقف أخلاقية في الصراع مع إسرائيل، وستكون الصين مسرورة بهذا الدور، لأنه يمكّنها من إحداث توازن في مجال "النقد الأخلاقي" مع الولايات المتحدة التي ما تزال تصوّر الصين قوة دولية غير مسؤولة، كما فعلت، أخيرا، في دعاية "الصاروخ الصيني التائه"، وقبل ذلك في القضايا الصينية الداخلية والإقليمية.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.