الصين ـ أميركا وتشكّل الأقطاب

17 يونيو 2023

(Getty)

+ الخط -

يزداد الحديث في المفهوم السياسي عالمياً عن نشوء تكتّلاتٍ أو تجمّعات إقليمية، تُصنَّف أنها "قوّة ثالثة" أو "قوّة من خارج الاصطفافات"، غير معادية للمحورين الأساسيين: الولايات المتحدة ومعسكرها، والصين وحلفائها. يبدو المشهد، للوهلة الأولى، وكأنه تكرارٌ لمرحلة بروز دول عدم الانحياز إبّان الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، وتناغمها بين شرق سوفييتي وغرب أميركي.

المفارقات عديدة هنا في تفاصيل الاختلافات: لا تفاهم إقليمياً مشابها لتكتل دول عدم الانحياز. إذ إن التكتلات الإقليمية الناشئة في الشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا، وإلى حدّ ما أميركا الجنوبية، تنبع من محيط جيوبوليتيكي محدّد، لا يتمدّد جغرافياً بل اقتصادياً. ولا ينوي إمالة ميزان القوى لمصلحة طرفٍ على حساب آخر، ولا حتى فرض رؤيته على أي قطبٍ عالميٍّ خارج سياق محاولة بناء علاقاتٍ ندّية، تحميه في إطاره المناطقي.

مفارقة أخرى، وهي الأساسية، لم تعد روسيا قطباً عظيماً في العالم، بل تحوّلت إلى مالك محطة الوقود الذي لا يشتري منه سوى زبائن محدّدين وبأسعار يفرضونها هم، على قاعدة "الزبون دائماً على حقّ". أضحى الصينيون عملياً حبل النجاة الوحيد للدولة الروسية، غير أن مثل هذا الحبل يطول ويقصر بحسب الحاجة الصينية الاقتصادية لروسيا، وأيضاً في حال تحقيق تفاهم مع الأميركيين. قد تكون المرّة الأولى التي يتجه فيها الروس شرقاً بغرض الحصول على النجدة، بعدما تمدّدوا تاريخياً لأسباب عسكرية مرتبطة بحماية الوجود الروسي في موسكو.

وضمن المفارقات ما يبرز في الجناح الفرانكوفوني في المعسكر الغربي. تغرق فرنسا في جدالات وخلافات عميقةٍ مع عديد من مستعمراتها السابقة الناطقة بالفرنسية، إلى درجة أن روسيا، أو "فاغنر"، تهرول لملء الفراغ الفرنسي، في مقابل متانة موقف الجناح الأنغلوساكسوني لدى الغرب، المتحرّك على مساحة جغرافية واسعة من الولايات المتحدة إلى نيوزيلندا.

يبدي الألمان في هذه الحمأة استعدادهم، على يد مستشار اشتراكي مغاير لاشتراكيي ثلاثينيات القرن الماضي، بالعودة إلى القمّة الأوروبية عسكرياً، بهدف التحول إلى ثاني أقوى جيش في حلف شمال الأطلسي خلف الولايات المتحدة. الطموحات الألمانية تُعدّ مشروعة، بناءً على ريادة برلين اقتصادياً وسياسياً في القارّة الأوروبية. يتحرّك الإيطاليون كما هو تاريخ روما: مصالحنا في غرب البحر المتوسط أو على ضفته الجنوبية لأوروبا، إذ في الشمال تصدّ جبال الألب تمدّداً إيطالياً إلى القلب الأوروبي. وما تحرّكات رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني في تونس، أخيراً، سوى تأكيد لمبدأين: يمينيّتها الفاقعة في ملف المهاجرين غير النظاميين، وترسيخ تاريخ غابر من السياسة الإيطالية الخارجية.

في مقابل ذلك كله، يبدو الطرفان الأقوى على الكوكب حالياً، الولايات المتحدة والصين، وكأنهما يدركان حجم التحوّلات الجارية، التي لا تُنقص من قطبية أحدهما في الوقت الحالي، خصوصاً أن حاجة الصين إلى الدولار الأميركي أكبر بكثير مما يظنّه بعض المتحمّسين لـ"إنهاء هيمنة الدولار في العالم". كما أن الحاجة الأميركية إلى الصين لا تشبه أي حاجة أميركية لأي دولة في التاريخ، منذ إعلان الاستقلال الأميركي في عام 1776.

النقطة الأهم هنا أن الفراغات التي تستولدها نهايات دول أو تجمّعات، والتي كان العالم متوجساً منها، قد اختبرت نموذجاً سابقاً لها، بانهيار الاتحاد السوفييتي ثم يوغوسلافيا، في مطلع تسعينيات القرن الماضي. مُلئت تلك الفراغات سريعاً، بنفوذ إقليمي مرتبط بدولة عظمى. أي فراغ مستقبلي مماثل، لن يخرج عن السياق نفسه، غير أنه سيكون أقلّ تبعية لقطبٍ أعظم، لكنه أقلّ حدّة في التعامل معه. شيء يشبه لامركزية عالمية متحرّكة لا تخرج عن ثوابت المركزية وقوانينها. في مثل هذا العالم، لا وجود لـ"تعدّد أقطاب" مستقلّ بالمطلق، بل تناغم ينكسر حين تصل الأمور إلى مبدأ "من ليس معنا فهو ضدّنا"، في حال تصادمت نيوترونات البشرية مستقبلاً، بعد الغزو الروسي أوكرانيا.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".