الصين الجديدة: ما الذي تغيّر؟
يمثل العام 2013 نقطة تحوّل أساسية في تاريخ الصين المعاصر، مع وصول الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى السلطة التي جمع فيها مناصبه الثلاثة الكبرى: الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم، رئيس اللجنة العسكرية المركزية للحزب الحاكم، ثم رئيس جمهورية الصين الشعبية، وهذا منصب شرفي إلى حد كبير مقارنة بالمنصبين الأولين، يستعمل، على عكسهما، لممارسة العلاقات الدولية أكثر من استعماله لممارسة السلطة داخل البلاد.
وليست نقطة التحوّل في وصول شي إلى السلطة بحد ذاتها، وإنما في تغييره طموحات البلاد من التنمية الاقتصادية الصافية إلى استعمال النجاح الاقتصادي لأغراض النفوذ السياسي في العالم. وعلى هذا، ثمّة نفاقٌ سياسيٌّ كبير في ترويج أهمية إعادة انتخاب شي أميناً عاماً للحزب الحاكم لدورة ثالثة في أواخر العام الفائت (2022)، باعتبارها المرّة الأولى التي يُتاح فيها للأمين العام البقاء في منصبه أكثر من دورتين منذ عهد الزعيم دينغ، مؤسّس النهضة الصينية المعاصرة، فالحقيقة أن الدوائر السياسية والبحثية في الغرب كانت تعرف أن ذلك سيجري منذ تولى شي مقاليد السلطة، وكاتب هذا السطور شاهد بنفسه على تداول هذه المسألة بين باحثين عديدين في الشؤون الصينية، قبل سنوات من تنفيذها، في مؤتمرات ولقاءات بحثية عن الصين. وهذا يعني أنّ الصين لم تتغير اليوم. لقد تغيّرت الصين منذ نحو عشر سنوات، فانتقلت من التركيز على ذاتها إلى التطلّع نحو العالم. ولتحقيق ذلك، استعملت إدارة الرئيس شي أدوات عديدة، فقد عملت على تطوير الجيش الصيني؛ فزادت أهمية القوات الجوية عوضاً عن البرّية، وطوّرت الصناعات العسكرية بفضل تطوير التكنولوجيا الصناعية. كذلك، انتقلت الصناعات الصينية من التركيز على الكمّ إلى التركيز على النوع، حتى لو انعكس ذلك على شكل تراجعٍ في نسب النمو الاقتصادي، وتجلى ذلك في نهوض صناعات وسائل النقل؛ من سيارات وقطارات وطائرات. أما المسألة الأكثر أهمية فهي توجيه خطابٍ جديدٍ نحو العالم يتحدّث عن المشاركة في التنمية والمستقبل الإنساني المشترك، وإطلاق مبادرة الطريق والحزام التي تقوم على إبرام اتفاقات استثمار اقتصادي لتطوير التجارة الدولية.
تغيّرت الصين منذ نحو عشر سنوات، فانتقلت من التركيز على ذاتها إلى التطلّع نحو العالم
لا نجادل هنا بشأن ما وراء هذا الخطاب الصيني من نيات، فهو بالتأكيد جزءٌ من السلوك السياسي للدول الكبرى الذي تتطلّع فيه لتحقيق مصالحها بالدرجة الأولى. الجدل هنا حول "ما الذي تغيّر في الصين" هذه الأيام، حتى يتغير حضورها في السياسة الدولية إلى ما يشبه الخصم في حربٍ باردةٍ جديدة مع الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، كما تجلّى قبل أيام خلال أزمة المنطاد الصيني الذي دخل الأجواء الأميركية، وجرى تفجيره بقرار من البيت الأبيض؟
لم يتغيّر شيء لدى بكين، هي تمضي في خططها الاستراتيجية. لكنّ خصومها هم من تغيّروا. فالولايات المتحدة قرّرت اليوم التصدي بحزم لاستراتيجية الصين التوسّعية، إن جاز القول، في ساحة السياسة الدولية، بعد أن كانت تسعى سابقاً إلى احتوائها، وهو أمرٌ تبدّى في استراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلنة أخيراً، تماماً كما ظلّت تتبدّى في سلوك الولايات المتحدة منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض قبل نحو سنتين. وعلى هذا، راحت واشنطن تبرم الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية في محيط الصين: مع الهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفيليبين. ودخلت على خط علاقات الصين مع أفريقيا وجزر المحيط الهادئ، محذّرة من مخاطر أمنية ومقدّمة وعوداً استثمارية وسياسية.
العالم ليس إزاء "صين جديدة" وإنما نهج أميركي جديد في التعامل معها
هذا يعني أن ليس ثمّة ما يبرر القول بظهور "صين جديدة" هذه الأيام، خصوصاً منذ إعادة انتخاب شي لمرة ثالثة قبل بضعة أشهر، فقد ظهرت الصين الجديدة عملياً في عام 2013، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يأخذوا الأمر بجدّية وقتها. ووفق هذه الرؤية، يمكننا فهم سلوك الصين في العالم وفي محيطها هذه الأيام. على سبيل المثال، يمثل تقاربها مع منطقة الخليج العربي ترجمة متواصلة لمبادرة الحزام والطريق، التي تسعى الصين من خلالها إلى الوجود في مناطق النقل البحري الحسّاسة، وبناء المشاريع المشتركة التي تخدم نقل بضائعها حول العالم من أجل مواصلة نموها الاقتصادي، مقابل تقديم استثماراتٍ وتكنولوجيا حديثة تساعد الدول الأخرى على تحقيق أهدافها التنموية. أي أنّ هذا التقارب كان مخطّطاً له، وليس مرتبطاً بسلوك الولايات المتحدة في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ، وليس ردّاً عليه.
ويمكن فهم سلوك الصين في مسألة تايوان، فهي ليست المرّة الأولى التي يؤدّي فيها الخلاف بشأن مبدأ "صين واحدة" إلى تنفيذ بكين مناورات عسكرية في محيط الجزيرة التي تعتبرها جزءاً من أراضيها، كما فعلت في أغسطس/ آب الماضي ردّاً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى الجزيرة، فقد أجرت الصين مثل تلك المناورات، حين فازت رئيسة تايوان الحالية تساي إينغ وين، المنتمية للحزب الديمقراطي التقدّمي الرافض التقارب مع بكين، في الانتخابات الرئاسية عام 2016 ضد مرشّح حزب كومنتانغ الذي يتبنّى نهج التقارب الاقتصادي مع الصين.
لم تتغيّر الصين. خصومها تغيّروا. وهذا معناه أنّ العالم ليس إزاء "صين جديدة"، وإنّما نهجٌ أميركيٌّ جديد في التعامل معها.