الصيام والقدرة على الفعل الأخلاقي
لا تكاد توجد شعيرة من شعائر الإسلام وأحكامه التكليفية غير مُغَيَّاة بجملة من المقاصد الأخلاقية التي تتجاوز أخلاق الاعتراف المتمثلة بالعلاقة التعبدية الخاصة مع الله وأداء ما يسميه الفقهاء "حقوق الله"، لتؤسّس عليها لزومًا أخلاق التواصل مع الناس والتي أدناها أداء ما يسميه الفقهاء "حقوق العباد". ولعل شهر رمضان وفريضة الصيام فيه من أجلى ما تبرز فيه هذه المقاصد الأخلاقية ببعديها المتلازمين، وتزيد فريضة الصيام على غيرها من التكاليف بإقامة الحجة على المسلم من نفسه أنه يمتلك القدرة والإرادة على الفعل والامتناع عن الفعل، حيث يقرّر ذلك، وبالتالي تقريره أنه يمتلك الحرية التي تُمَكِّنه من الفعل الأخلاقي، حيث يرى أن من الواجب فعله، فقرار المسلم الامتناع عن الشهوات المباحة في نهار رمضان هو تعبير جليّ عن كفاءته الأخلاقية، وتمتعه بالحرية والمسؤولية، إذ قرار الصوم ضميري بامتياز، ولا يحفز عليه غير الشعور بالواجب، إذ لا يتأتّى في فعل الصوم نفسه النفاق. وبالتالي، التمرين الأهم في فريضة الصوم ليس الامتناع عن الطعام نفسه، إنما تذكير المسلم بالقدرة على ذلك، وتبعًا فمن يقدر على أداء هذا الواجب التعبّدي من باب الاعتراف الأخلاقي بأداء ما فرضه الله، فإنه قادر لزومًا على ما هو دون ذلك من الواجبات تجاه العباد، والتزام أخلاقيات التواصل معهم، وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي "الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ" (البخاري)، فأرشد الحديث إلى استحضار القدرة والإرادة والمسؤولية الأخلاقية في التعامل مع الناس، فعندما يُحَدِّث الصائم نفسه في ظروفٍ قد تجرّه إلى سوء الأخلاق مع الناس، مذكرًا نفسه أنه صائم بكامل إرادته، فكأنه يقول ويصرح معترفًا إني قادر أيضًا على أن أعامل الناس بحسن الخلق، وإنه بما أني اخترت حسن الخلق مع الله اعترافًا، فينبغي أن أختار حسن الخلق مع الناس تواصلًا.
ليس المقصود بالعبادات شخوصها ومظاهرها فقط، إنما غاياتها أيضًا
المعنى التربوي نفسه لفريضة الصوم نجده في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه" (البخاري)، وترك قول الزور في الحديث هنا إنما هو مجرّد مثال لأخلاقيات كثيرة على المسلم الالتزام بها تجاه الناس كل الناس وفي كل الأحوال، والتذكير بها في هذا سياق الصيام تذكير بالقدرة والمسؤولية، فالمسلم قادر على ذلك ومسؤول عنه بدليل قدرته على الصيام في نهار رمضان، وأكبر حجّة عليه هي فعله ذلك، فأحرى به أن يدرك مسؤوليته الأخلاقية الأعم في غير رمضان ونحو العباد أيضًا، وليس نحو الله فقط، وأن يستصحب الفعل الأخلاقي الذي اعتاده في رمضان في سائر السنة. ومن طريف ما يؤكد هذا المعنى ما ذكره العز بن عبد السلام (ت: 660هـ) عن الأمر في قوله تعالى "ثم أتموا الصيام إلى الليل" (البقرة: 187) أنه "أمر بإتمام آداب الصيام، إذ لا يكون تامًا كاملًا إلا بكمال آدابه"، ويقصد بذلك استمرار الالتزام بآداب الصيام ليلًا بعد الإفطار.
والنصوص القرآنية والحديثية المتعلقة بشعائر كثيرة غير الصوم تؤكد هذه المقاصد الأخلاقية وضرورة استمراريتها في حياة المسلم، فليس المقصود بالعبادات شخوصها ومظاهرها فقط، إنما غاياتها أيضًا وهي الأهم، والتي عُبر عنها بالتقوى بما هي التزام بالضمير الأخلاقي وتنميته، نجد ذلك صريحًا في الحديث عن الأضاحي التي لن ينال الله لحومها، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكذلك عن قبلة الصلاة وعمارة المسجد الحرام وخدمته، وأمور أخرى كثيرة، تتميز عليها فريضة الصيام بإقامة الحجة الدامغة على المسلم، بإبراز قدرته على الفعل الأخلاقي، وبالتالي التذكير بالمسؤولية عن استمرار الالتزام به في سائر الأيام.
قوة الإرادة والالتزام في الفعل الرمضاني ستكون حجّة على الصائم عندما تضعف إرادته عن الالتزام الأخلاقي بحقوق العباد فيه وفي غيره
يتأكد هذا المعنى الحجاجي لشهر رمضان، وفريضة الصوم فيه، بأنه شهر نزول القرآن، والذي وصفت ليلة نزوله فيه (ليلة القدر) بأنها سَلام، وأنها خير من ألف شهر، ففي هذا الاقتران بين فريضة الصوم وشهر القرآن تذكير للصائم بالقدرة على استصحاب الهدي القرآني، والخير الذي يحمله للناس، وأول هذا الخير ما وصفت به ليلة القدر، وهو "السلام" المصاحب لتنزله. وهو من جهة وصفٌ تكوينيٌّ من حيث تحققه مع القرآن تنزلًا. ومن جهة أخرى، هو بالضرورة أمر تكليفي، من حيث ما ينبغي أن يستوعبه كل من يتعامل مع القرآن مما هو وصفه تدبرًا أو تبليغًا، وأنه يحمل السلام والطمأنينة، والتي ينبغي أن تلازم القرآن في جميع أنواع التعامل معه، وأن يَبلُغ الناس بما هو كذلك، وإلا كان تحريفًا لما هو خاصيته.
لا يخفى أثر الصيام في التوجه العام نحو الخير والبذل والتسامح بين الناس، إذ تتحرّر إرادة الصائم من الضعف والخور والتردّد، وتتعزّز لديه مشاعر الإقدام والقدرة على الفعل، فمن يرقب الزمان طيلة شهر رمضان، وضبط عتباته بالدقائق ويشعر بالذنب لو تجاوزها، وأنه سيتحمل مسؤولية التجاوز بكامل إرادته وبرقابة أخلاقية ذاتية، ينبغي أن يشعر بالضرورة بمسؤوليات أهم، وأن يوسّع هذه الرقابة الأخلاقية العملية في حقوق الله في الامتناع عن الطعام والشراب ونحوه في حدودها المرسومة في رمضان، لتشمل الرقابة الأخلاقية في حقوق العباد فيه، وفي غيره من الشهور، فقوة الإرادة والالتزام في الفعل الرمضاني ستكون حجّة على الصائم عندما تضعف إرادته عن الالتزام الأخلاقي بحقوق العباد فيه وفي غيره، ولئن دأب المسلمون على توديع الشهر الكريم والفرح بالفطر من بعده، فإن أهم معاني الفرح التي ينبغي استحضارها استصحاب الدرس الرمضاني نفسيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا، فوعي الصائم بما يمتلك من قوة الإرادة والفعل الأخلاقي هو الجائزة الأهم التي ينبغي أن يفتخر بها الصائم في يوم الفطر يوم الجائزة.