الصياد عارياً في المصيدة
الحفرة العميقة التي جرى استدراج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قعرها، كانت أميركا قد شرعت في حفرها قبل بدء الغزو بفترة طويلة، ثم أخذت في الأشهر الماضية بتوسيع نطاق المصيدة وتمويهها جيداً، كي يقع الدبّ السيبيري الأبيض في عمق أعماقها، إلى الحد الذي راح فيه الرئيس الأميركي، الطالع لتوه من هزيمة أفغانستان، يفسح الطريق جانباً، ويعلن بملء فمه أنّ واشنطن لن تدخل الحرب، ويقول، بزلّة لسان غير بريئة، إنّ بلاده ستتسامح مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا إذا كان محدوداً. وأخذ يقدّم ما يكفي من الإغراءات لتحفيز بوتين، بما في ذلك إغلاق سفارتها، وإجلاء مواطنيها، وحثّ الرئيس الأوكراني على الفرار، والإيحاء بأنّ كييف ستسقط خلال ثلاثة أيام، وذلك لدحرجة صياد الفرص الاستراتيجية إلى الهاوية.
السؤال هنا ليس عن كيفية اصطياد الصياد، فهذه مقاربةٌ يكاد يُجمع عليها المراقبون ذوو البصيرة، وإنّما السؤال هو كيف بات الصياد عارياً، إلّا من أربع قطع مهترئة، بعد مرور أسبوع واحد على مقارفة هذه الفعلة غير المحسوبة بدقة، ولماذا صار (بالمعنى المجازي) محاصراً داخل الحفرة، ومطارَداً خارجها، عبر ساحاتٍ متعدّدة الجبهات المفتوحة، في العالمين الافتراضي والمعزّز، وعلى كلّ الأصعدة؟
إلى جانب فيضٍ من العقوبات غير المسبوقة، تجلّى العري الفاضح في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما صوّتت 141 دولة على مشروع قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، مقابل أربع دول، أو قل أربع قطع ملابس داخلية بالية، وقفت إلى جانب موسكو، في مشهد بالغ الدلالة على مدى عزلة الدولة المتطلعة، عبر مغامرتها العسكرية هذه، إلى إحداث نقطة تحوّل نوعي على مسرح السياسة الدولية، يعيد لها صورة روسيا القيصرية، واسترداد رتبة الدولة العظمى الثانية.
وبالتدقيق أكثر في ماهيات الدول الأربع المؤيدة للغزو هذا، نجدها بمثابة أربع خرق ممزقة، لا تستطيع مجتمعةً تغطية العورة الروسية البائنة، أولها خرقة نظام بيلاروسيا الاستبدادي، توأم نظام جارته اللصيقة، وثانيها حكم الفرد المنبوذ و"المحبوب جداً" في كوريا الشمالية، أما ثالثها فهي خرقة نظام أسياس أفورقي المتوحش، الذي أكل كلّ رفاقه في حرب التحرير، وعضّ كلّ يد ساندته، وبصق في الصحن الذي غمّس منه، وظل طوال أربعة عقود السيد الأوحد في إريتريا. غير أنّ الخرقة الرابعة، وهي الأشد تهتكاً من سابقاتها، ماثلة في نظام بشار الأسد، الذي خالف نظراءه في محور الممانعة، الممتنعين عن التصويت في جلسة الجمعية العامة، بمن فيهم إيران، وذهب وحده مؤيداً للغزو، وزايد عليهم ببرقية تأييد لبوتين، دعم فيها ما سمّاه تصحيح أخطاء التاريخ بتعديلات حدودية، الأمر الذي كان من شأنه إثارة مخاوف جيرانه، ولا سيما في لبنان والأردن، لو كان الأسد قوياً بما فيه الكفاية، لتقليد القيصر في مغامرته الأوكرانية.
وإذا كان لمشهد العزلة الدبلوماسية هذا، الذي لا يليق أبداً بدولة نووية كبيرة، أن يقول شيئاً بعينه، ويقدّم دليلاً على أنّ القوة لم تعد تُحسَب، في هذا الزمان، بعدد الدبابات والطائرات والراجمات الصاروخية، وإنما باتت تقاس بالوزن الاقتصادي، والتقدّم التكنولوجي، وبلاغة الحضور الثقافي والمعرفي، ناهيك عن التفوّق الأخلاقي، والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وغير ذلك مما يفتقر إليه حكم بوتين، المستند إلى منظومة قائمة على أربع ركائز هجينة وشاذّة، المافيا والبروباغندا والأوليغارشيا والكليبيروقراطية (حكم اللصوص).
ذلك أنّ المافيا الروسية هي أشهر المافيات في العالم وأغناها، كونها ابنة نظام ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ووريثة ممتلكاته الثمينة. أما البروباغندا فهي سلاحه "الناعم" وماكينته الدعائية الهائلة، وفق ما تبدو عليه هذه الأيام، إذ يحتل مستعربوها، من الشفق إلى الغسق، نصف مساحة الشاشات العربية، لاختلاق الحقائق وقلبها، وبث الأكاذيب المكشوفة، فيما شكلت الأوليغارشيا، وهي طبقة الأثرياء الفاسدين المحيطين بسيد الكرملين، أهم مصادر سطوة بوتين في الداخل، وغدت بمثابة دولةٍ عميقةٍ لحكم سادر في اللصوصية.
إزاء ذلك كله، يمكن فهم كلّ هذا التهافت الشديد في مكانة روسيا البوتينية، وتلمّس كلّ هذه الخسارات الفادحة في السمعة والمنزلة والصورة، فضلاً عن العزلة الخانقة، وضعف التنافسية، وهشاشة البنية الاقتصادية، التي لا يمكن تعويضها بالاتكاء على سلاح نووي والتلويح به برعونة، أو بالإفراط في استخدام نيران قوة عسكرية غاشمة ترتكب، في سبيل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبعث مجدٍ قيصري غابر، سلسلة طويلة من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية، وتواصل التعثر والنزف والمراوحة، لنحو أسبوعين داميين، على أبواب المدن الأوكرانية.