الصمود في فلسطين حاسم في الاستراتيجية الوطنية
يُمثل صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، بالرغم من نكبة عام 1948، أهم إنجاز فلسطيني، وأهم فشل للحركة الصهيونية التي قامت رؤيتها على ركنين: الاستيلاء على الأرض بالقوة المسلحة، وتهجير أهلها.
وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في احتلال كل أرض فلسطين بالعدوان والقوة العسكرية، فإنها فشلت في إجبار أهلها على الرحيل، حتى صار عددهم يفوق عدد اليهود الإسرائيليين في فلسطين التاريخية. ولذلك بالتحديد، طوّر الفاشي بتسلئيل سموتريتش نظريته في حسم الصراع من خلال ترحيل الفلسطينيين، أو قتلهم كما قال، أو إخضاع من يبقون للسيطرة الفاشية الإسرائيلية.
تعزيز صمود الفلسطينيين في كل أرجاء فلسطين من أهم أركان الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية الجديدة المطلوبة، وإن لم ينفِ ذلك أنه كان عنواناً لكثير من الجهد الوطني بعد احتلال إسرائيل الضفة الغربية، بما فيها القدس وقطاع غزة. فبقاء الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وتعزيز ذلك هو أكثر العناصر المقرّرة لمستقبل فلسطين وشعبها. وكي لا يكون تعزيز الصمود مجرّد شعار يرفع، فإنه يحتاج مناقشة تفصيلية للخطوات التي يجب اتّخاذها. وأولاها التركيز على دعم المناطق المهددة مباشرة بالترحيل والضم والتهويد وإسنادها، وفي المقدمة منها القدس، والبلدة القديمة في الخليل، والتجمّعات السكانية الواقعة في ما تسميها اتفاقيات أوسلو (مناطق ج) وجميعها مناطق تشهد نشاطاً استعمارياً استيطانياً مكثفاً، وضغوطاً لا تتوقّف لدفع سكانها إلى الرحيل والهجرة.
يواجه سكّان القدس صعوبة هائلة في الحصول على تراخيص البناء، بالإضافة إلى التكاليف الباهظة للتراخيص النادرة التي يُسمح بها، ويضطرّون إلى البناء من دون انتظار موافقة أو إذن من سلطات الاحتلال، ويمارسون بذلك شكلاً نبيلاً من المقاومة الشعبية للظلم الذي يتعرّضون له، وهناك ما لا يقلّ عن عشرة آلاف بيتٍ في القدس مهدّدة من الاحتلال بالهدم.
يمثل جيل الشباب الفلسطيني، وخصوصاً الشباب المتعلم، أكثر الفئات استهدافاً، لدفعه إلى الرحيل عن وطنه، بحثاً عن فرص عمل، ومصادر دخل، ومعيشة أفضل
ويرمي الاحتلال على كاهل سكان القدس كذلك ضرائب باهظة تشمل كل مناحي الحياة، وتحرمهم في الوقت نفسه الخدمات الأساسية، والبنية التحتية في إطار منظومة تمييز عنصري بغيضة، ويكافح تجّار القدس في البلدة القديمة للبقاء في ظل ضغوط اقتصادية يصعب وصفها. ويضاف إلى ذلك قرار إسرائيل منذ عام 1967 اعتبار 380 ألف مقدسي مجرّد مقيمين مؤقتين عليهم إثبات وجودهم باستمرار، حتى لا يخسروا هوياتهم وحقهم في الإقامة في مدينتهم. ويستطيع اليهودي الإسرائيلي أن يسافر إلى أي مكان في الخارج، ويقيم في أي مكان لأي فترة يريد، دون أن يُهدد وجوده أو يفقد هويته، ولكن الفلسطيني يمكن أن يصبح مشرّداً إن غاب بسبب الدراسة أو العمل لبضع سنوات. ولا يستطيع المقدسي أو المقدسية الزواج بشخص من الضفة الغربية أو قطاع غزة من دون أن يخاطر بفقدان هويته.
ومثل القدس، تواجه البلدة القديمة في الخليل مؤامرة تهويد استيطاني استعماري وهجمة استيطانية شرسة، وإنّ من يزورها يستطيع أن يدرك حجم الجهد الهائل الذي يبذله سكّانها وأصحاب المحلات التجارية فيها للبقاء فيها ومقاومة إغراءاتٍ تركها إلى مناطق أخرى في الخليل. كذلك حوّل الاحتلال أحياءً بكاملها، مثل تل الرميدة في الخليل، إلى غيتوهات لا يستطيع سكّانها الدخول إليها أو الخروج منها إلا بإذن إسرائيلي، ويمنعون من استقبال أي زوار حتى لو كانوا أقرب أقاربهم، وتحيط بمنازلهم ثكنات الجيش الإسرائيلي، ولا تتوقف اعتداءات المستوطنين عليهم.
أمّا التجمّعات السكانية التي يتجاوز عددها 400 تجمّع في ما يسمى مناطق (ج)، التي تشكّل 60% من مساحة الضفة الغربية، فتعيش اجتياحاً استيطانياً استعمارياً شرساً، من 750 ألف مستوطن، يحاولون السيطرة على كل شبر فيها بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية، والطرق العنصرية المحرّمة على الفلسطينيين، والمناطق المغلقة وجدار الفصل العنصري الذي يقتطع وحده ويعزل 18% من الضفة الغربية. ويجزئ الاستيطان، بالإضافة إلى 644 حاجزاً إسرائيلياً، ما بقي من الضفة الغربية إلى 224 جزيرة يمكن وصفها بالبانتوستانات الصغيرة أو الغيتوستانات، ما يؤدّي إلى تحطيم منهجي لاقتصادها، وبنيتها الصحية والتعليمية. ويفرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانفاً على قطاع غزة، برّاً وبحراً وجواً، ويحرمه الكهرباء والمياه وفرص العمل والتطوّر الاقتصادي.
يتعرّض المجتمع المدني الفلسطيني الذي يقوم بدور حيوي لدعم الصمود، لهجمات إسرائيلية متواصلة عبر شبكة من المؤسّسات التي تشرف عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية
ديمغرافياً، يمثل جيل الشباب الفلسطيني، وخصوصاً الشباب المتعلم، أكثر الفئات استهدافاً، لدفعه إلى الرحيل عن وطنه، بحثاً عن فرص عمل، ومصادر دخل، ومعيشة أفضل، في ظل ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب المتعلم إلى حوالى 45% في الضفة الغربية و80% في قطاع غزة.
دفعتنا كل هذه المعطيات إلى إعداد دراسات تفصيلية لاحتياجات دعم صمود المناطق المهدّدة، وبقائها، وخصوصاً في مناطق (ج). وفي الواقع، لا يوجد نقص في فهم (أو وصف) الاستراتيجية الإسرائيلية لتهويد القدس والضفة الغربية وضمهما، وتكريس فصل كامل لقطاع غزة. وفي المقابل، يوجد تصوّر واضح للخطوات والإجراءات والاستراتيجية التي يجب اتباعها لإفشال الاستراتيجية الإسرائيلية، وضمان صمود الفلسطينيين وبقائهم، وتواصل أغلبيتهم الديمغرافية على أرض فلسطين التاريخية.
الأمر الغائب، خطّة جماعية وقيادة موحّدة لإدارة معركة الصمود وتجنيد المقدّرات لإسناد الشعب الفلسطيني وبقائه. ولا تعطي ميزانية السلطة الفلسطينية التي تتلقّى معظم المساعدات الخارجية، على ما هو ظاهر، أولوية لمقدّرات دعم الصمود والبقاء. وتفيد التقديرات بتخصيص 38% من الميزانية للمؤسّسة الأمنية، فيما لا تتجاوز ميزانية الزراعة 1.5%، وتقف ميزانية الصحة عند 11.5% فيما لا تتجاوز ميزانية التعليم 18%، وكان التعامل مع إضراب المعلمين نموذجاً لتخبّط السياسة الحكومية وتضاربها. وتفتقر القدس إلى مرجعية موحّدة لتعزيز صمود أهلها، ويتواصل التضارب والصراعات الداخلية بين المؤسسات الرسمية التي يفترض أن تشرف على دعمها.
دعم صمود الشعب الفلسطيني مهمّة بحاجة إلى مراجعة شاملة وحوار بنّاء صادق النيات، لبلورة استراتيجية وطنية مشتركة وموحّدة
ويتعرّض المجتمع المدني الفلسطيني الذي يقوم بدور حيوي لدعم الصمود، وخصوصاً في المناطق المهدّدة، لهجمات إسرائيلية متواصلة عبر شبكة من المؤسّسات التي تشرف عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مثـل NGO Monitor وUK Lawyers وUN Watch، بهدف تجفيف موارده وملاحقة مؤسّساته وشيطنتها. وذلك فيما تعمل في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 40 منظمة صهيونية، هدفها الوحيد دعم إسرائيل، وتجنّد مليارات الدولارات سنوياً لمختلف المؤسّسات الصحية والتعليمية والبحثية، وحتى الأمنية الإسرائيلية. ولا يخلو أي بلد أوروبي أو أميركي من مؤسّسات مشابهة في الأهداف والنشاط، ولكنها منصبّة نحو هدف واحد، وتشجّعها الثقة بأن ما يجنّدونه من موارد يستخدم بشكل صحيح وفعّال بعيداً عن الفساد.
ومن دون التقليل من الجهد الوطني الكبير الذي تبذله مختلف المؤسسات الفلسطينية في فلسطين والخارج لدعم صمود الشعب الفلسطيني، فإن هذه المهمّة بحاجة إلى مراجعة شاملة، وحوار بنّاء صادق النيات، لبلورة استراتيجية وطنية مشتركة وموحّدة، عنوانها الرئيس تعزيز صمود الفلسطينيين وبقاؤهم على أرض وطنهم، وإيجاد فرص العمل المنتج لأجيال الشباب، حتى لا يُتركوا أمام خيار الهجرة، أو العمل في المستوطنات والمؤسّسات الإسرائيلية.
هناك طاقات فلسطينية وعربية ودولية كبيرة يمكن أن تُجند كذلك لتعزيز الصمود، وإفشال المخطّطات الصهيونية، إذا ما توافرت الإرادة الصادقة، والاستعداد للتخطيط العلمي الوطني المنزّه عن الدوافع الفئوية والشخصية، والثقة المتبادلة، وهذا ما يجب أن يكون موضوع حوار سريع وجدّي.