16 نوفمبر 2024
الصحافة تكسب "نوبل للآداب"
يشيعُ بين عديدين من كتّاب الأدب وأهله العرب أن للصحافة أثراً سيئاً على الأدب، وأنه ليس في وسع المشتغل فيها أن يكون كاتبَ أدب قديراً، بالنظر إلى لغتها التقريرية والمباشرة، وبُعدها عن التخييل. ويتطرّف بعض هؤلاء، في منظورهم هذا، في تعففهم من مهنة الصحافة نفسها، وأحياناً من قراءة الجرائد، صدوراً عن قناعةٍ، تبدو وجيهةً، أن الأدب معنيٌّ بالجوهري والعميق، فيما الصحافة مشغولةٌ باليومي والعابر. وإلى مقادير ظاهرةٍ من النرجسية والذاتية، المفرطة (غالباً؟) في طبائع أدباء عرب عديدين، تجعلهم يردّدون هذا الكلام، وبشيء من الفوقية، فإن الركاكة في الجرائد العربية، وكذا ندرة الاستقصائية وقلة الكتابة العالية والأنيقة فيها، عوامل تسعف أولئك بذرائع لازورارهم عن أي اعتبارٍ للصحافة، وفي اعتبارهم المنجز الأدبي، أو الكتابة ذات القيمة الرفيعة، أجلَّ من أن يتأثرا، ولو بأي شكلٍ، بأيٍّ من أجناس الصحافة.
هناك ممكناتٌ وفيرة في الصحافة يفيد منها الأدب، المعني منه خصوصاً بالحياة ومصائر الإنسان، وقد استفاد غابرييل غارسيا ماركيز كثيراً من عمله صحفياً، وبنى رواياتٍ له على ريبورتاجات ميدانية أنجزها. كما أن الإسباني خوان غويتسولو برز صحفياً وكاتب تقارير موسعة، بالإضافة إلى صفته روائياً، ومثقفاً كونياً. وغير منسيةٍ تقاريره، الرفيعة اللغة والحاذقة في انتباهاتها، عن جولاته في فلسطين والشيشان والبوسنة والجزائر. وفي الوسع أن يُشار إلى صنيعٍ صحفي أنيق، وروائي في الوقت نفسه، لغير هذين العلمين، في صحافاتٍ أوروبية وأميركية. ومن شديد الأسف أن الصحافات العربية قليلة الانتباه إلى هذا اللون من الكتابة، ومن أسفٍ أكثر أن نصاً صحفياً وميدانياً، للإسرائيلي ديفيد غروسمان، "الزمن الأصفر"، ما زال يُشار إلى تميزه في ما نقول، وكان عن اللاجئين الفلسطينيين، وله ترجمتان بالعربية، منذ نشره 1989.
نطالع، في هذه الأيام، إضاءاتٍ تعرّف بنتاج الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا ألكسيفيتش، بمناسبة نيلها، أخيراً، جائزة نوبل للآداب، فنقرأ عن كتبها الستة (لم يترجم أيٌّ منها إلى العربية) أنها ليست أدباً بالمفهوم المستقر للأدب، وإنما نصوصٌ سردية، لا تنتسب إلى الرواية تماماً، بل إلى "تخوم الكتابة الوثائقية"، بحسب أدق التوصيفات لها، فأدبها، بحسب بيان الجائزة "متعدد الأصوات"، تنجزه الكاتبة التي "كل همها تصوير الواقع بأدق حيثياته". إنها كتابة تقوم، أساساً، على شهادات ناسٍ، ينطقون عن أحوالهم ومشاعرهم وجروحهم. جمعتها سفيتلانا من أصحابها، وهم بالآلاف، وفي معظمهم روس (أو سوفيات على الأصح) كابدوا أهوال الاستبداد والحروب والستالينية. حافظ السرد في بث هذه الشهادات، وفي كل ما فيها من أشواقٍ وندوب، على صفةٍ أدبية، مع حضور كبير لإيقاعها المحكي، على ما طالعنا. وهذا كله ما كان ليصير على تميّزه الذي جعل هذه الكتب تحظى بمقروئيةٍ عالية بين مواطني الاتحاد السوفياتي السابق، وفي بعض أوروبا وأميركا، إلا لتمكّن الكاتبة من مهنتها صحفية، وقد زاولتها بعينٍ بارعة التحديق في الجوانيّ والعميق في ما عاينت ودوّنت، من جنودٍ عائدين من حرب أفغانستان، أو من الضحايا المتضررين من كارثة تشيرنوبل، ومن ناجين من الحرب العالمية الثانية، ومن غير هؤلاء وأولئك.
سفيتلانا ألكسيفيتش كاتبة تحقيقات صحفية، جهدت في التعبير عن الإنسان، وقد ذهبت إلى روحه، كما صرّحت، وكما أكد محررون قارئون لها في الصحافة الثقافية الأوروبية والأميركية، تحفظت واحدة منهم في ألمانيا، في قولها إن "نوبل للآداب" يجب أن تُمنح للآداب الكبرى، وليس للكتابة الصحفية المتميزة. ولكن، نظن أنها شجاعةً كبرى لدى لجنة الجائزة العالمية الشهيرة في مفاجأتها هذه، علماً أن الكاتبة الفائزة كانت من الأسماء المرجحة، عندما أنصفت نوعاً من الكتابة، هو من أجناس الأدب الرفيع، طالما أنه ينشغل بالعميق من قضايا الإنسان، وإنْ كان أقرب إلى الصحافة، من دون الامتثال تماماً إلى شروطها. لا نريد التذكير بأن ونستون تشرشل أعطي جائزة نوبل للآداب (1953) لكتاباته عن تاريخ بلاده، بل نود احتفاءً بتكريم المهنة الصحفية، الرائقة والراقية والرفيعة.