الصحافة الإسرائيلية ... أغنام السودان مثلاً
تُخصّص صحفٌ ومواقع إلكترونيةٌ عربيةٌ مساحاتٍ فيها لمقالاتٍ تنتخبها من الصحف الإسرائيلية. ومن ذلك أن الصحف الأردنية حافظت، عقودا، على هذا الأمر، واحدا من تقاليدها العتيدة، سيما إبّان كانت تعيّن للشؤون الإسرائيلية محرّرا مختصّا. وأن الزميلة "القدس العربي"، منذ تأسيسها قبل 34 عاما، تيسّر لقرّائها يوميا صفحة مقالاتٍ منوّعةٍ مترجمةٍ من تلك الصحف. وفيما لأيٍّ أن يرى ما يرى في هذا، ثمّة منّا، نحن أهل الإعلام، من يتحمّس بإفراطٍ لـ"ضرورته"، وثمّة من يلقاه على بعض أهميةٍ، وإنْ من دون إلحاحٍ خاص. والقول في هذا الشأن عند صاحب هذه الكلمات إن من تقليديّ الأمور وبديهيّاتها أن نطّلع، نحن المشتغلين بالتعاليق والتحليلات في وسائط الإعلام، على جديد المهم من الصحافات الأجنبية، ومنها الإسرائيلية، ولكن من دون الأخذ بما ينكتب في "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"هآرتس" وغيرها حقائقَ مؤكّدة، أو آراء مؤثرة ووازنة بالضرورة. وإذ يرى زملاءُ في مقالةٍ لمعلّق إسرائيلي عن نهايةٍ متوقّعةٍ للدولة العبرية إذا استمرّ التنازعُ الحادثُ بشأن تعديلاتٍ قضائيةٍ مقترحةٍ شاهدا على زوال إسرائيل الذي يقترب، فإن في الوُسع أن يقع واحدُنا على مقالٍ نقيضٍ في الصحيفة نفسها لكاتبٍ آخر يذهب إلى أن الجاري من خلافٍ واختلافٍ بين معارضين متظاهرين وحكوميين في السلطة دليلَ قوّة إسرائيل.
ومما ينفع للتأمّل أو الدرس أو التفكّر، في متن الموضوع وحاشيته، أن كتّاب الرأي والتحليل في الصحف الإسرائيلية يخوضون في شؤونٍ متنوعةٍ في الدول العربية، تتجاوز الاستراتيجيّ والأمنيّ (والمخابراتي) العام بخصوصها، إلى قضايا في الاجتماع والاقتصاد والسياحة والتنمية والدراما و...، وتذهب إلى تفاصيل داخليةٍ متنوّعة الصُعُد، بمقارباتٍ يحدُث أن تكون عميقة، أو متسرّعةً بعض الشيء، أو بلا قيمة. ولكنك غالبا تجد السويّة عالية، من حيث حيازة الحرية الرحبة في القول، وسعة المعرفة بالموضوع، لا تُصادف مثلها في بعض صحافات محلية في البلدان العربية المتحدّث عنها، لدى معلقين وكتّابٍ يُؤثرون الوعظيات والاحتفائيات واللغة المدرسية، وإنْ، من قبلُ ومن بعد، ثمّة كفاءاتٌ يُعتدّ بها في عموم الصحافة العربية، لها القدرة على كتابة مقالاتٍ وتحليلاتٍ جذّابة وراقية، وعلى متانةٍ وعلوّ في بسط الآراء وتدعيمها بالشواهد والمعطيات والبيانات والقرائن.
مناسبة التذكير بما سبق، وأظنّه من البديهي المبذول (يحدُث ألا نملك غيرَه!) أن الصحافي في "هآرتس"، تسفي برئيل، خاض في مقالته، في 5 إبريل/ نيسان الجاري، في الشأنين، الاقتصادي العام، والمعيشي تعيينا، في مصر، وما هما موصولان به من شأن سياسي، بل طاف على غير أمرٍ وأمر، في كتابةٍ نمّت عن أن صاحبَها يجتهد فيما يكتُب، فاستعان بالمعلومة الموثقة، وذهب إلى تفاصيل يومية تخصّ المواطن المصري، وذلك كله (وغيرُه) من مدخل ما استجدّ بشأن أزمة اللحوم في مصر، وما لها من صلةٍ محتملةٍ بواقع أن السودان الذي يشهد حربا يزوّد مصر بنحو 10% من استهلاكها الأغنام. ويأتي الكاتب، الذي يُعنون مقالَته "أغنام السودان تذيع المفضوح وتكشف المستور في الأزمة المصرية"، على ما يتّهم به مربّو الأغنام والأبقار في مصر حكومة بلدهم بالإدارة الفاشلة لهذه السوق. ويرى أن أزمة اللحوم الحادثة من مظاهر مستجدّة للأزمة الاقتصادية العامة في البلد. ويعرّج على كثرة خرّيجي الجامعات ممن يغالبون عبء البطالة، ومنهم خرّيجو العلوم الاجتماعية والإنسانية، ثم يأتي إلى طرح رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، خصخصة شركاتٍ مدنيةٍ بملكية الجيش، خطوةً إذا جرى تطبيقها قد تُدخل إلى ميزانية الدولة نحو ملياري دولار. ومن خلاصاتٍ ينتهي الكاتب، بعد أن يروح إلى غير مسألةٍ ومسألة، بإيجاز وربط فيما بينها، إلى أن التداعيات السياسية لقفزةٍ حادّةٍ في الأسعار والإضرار بالطبقات الفقيرة في الدولة يصعُب التنبؤ بها. وإنهم في مصر يتحدّثون منذ زمنٍ إن الشعب وصل إلى نقطة أنه لم يعُد لديه فيها ما يخسُره. وإلى حدوث هذا، ما زال النظام المصري يحاول وقف أي انتقادٍ له في وسائل الإعلام.
ليس لديّ إعجابٌ بالصحافة الإسرائيلية، ولا ألحّ على وجوب مطالعةٍ يوميةٍ لها، غير أن وجود مقالةٍ في صحيفة عبرية عن أغنام السودان في مصر يعني، من بين كثيرٍ يعنيه، أن شؤوننا الداخلية العربية، بتفاصيلها المُضجرة أحيانا، شؤونٌ إسرائيلية أيضا. وهذا هو الأوجب أن نعرفه.