الشيوعيون العراقيون ولعنة بريمر
بإمكان الشيوعيين العراقيين أن يجدوا ما يكفي لتبرير التحاقهم بركب التيار الصدري في "تحالف سائرون" الميت تاريخيا، رغم أن عديدين منهم يعترفون بأن حزبهم أصبح في ظل تلك الخطوة ذيلا للتيار الذي دأب زعيمه، مقتدى الصدر، على اتخاذ قراراتٍ مفاجئة في مسائل مهمة وأساسية، من دون استشارة أحد من حلفائه، أخيرها خطوته الدراماتيكية بخروجه من البرلمان التي يؤكد شيوعي عتيق أنه ورفاقه فوجئوا بها، كما فوجئ غيرهم. وكان الشيوعيون برّروا تحالفهم في حينه بأنه "كسر للطائفية السياسية (..)، وتحالف بين أناسٍ لم تكن لديهم، في بادئ الأمر، أي أيديولوجية مشتركة"، وهذا أمرٌ قد يفهمه بعض العراقيين في إطار النظر إلى مرحلة صعبة، لها خصوصيتها واشتراطاتها المعلومة، لكن الواضح أن هذا "التحالف" شكّل خطأ استراتيجيا، كان الجدير بالحزب تجنّبه. ومع ذلك، يظل هذا الخطأ صغيرا إذا ما قيس بالخطيئة الكبرى التي ارتكبها الحزب في الأيام الأولى للاحتلال الأميركي، عندما قبل سكرتيره العام، حميد مجيد موسى، الدخول في مجلس الحكم الذي أنشأه بول بريمر، واعتبر ممثلا عن طائفته، ووصفه بريمر آنذاك بأنه "شيعيٌّ محبوب، وله تأثير وشعبية"، وعُرف لاحقا أن ضم الحزب الشيوعي إلى المجلس جاء بنصيحةٍ بريطانية، بحسب ما أورده بريمر في كتابه "عامي في العراق". وقد دافع قادة الحزب أكثر من مرّة عن خطيئتهم تلك، ووصفوا مجلس الحكم بأنه "وحده القادر على كسب ثقة العراقيين وإشاعة الأمل في نفوسهم"، إلى آخر "المعزوفة" التي لم تثر سخرية الوطنيين العراقيين بمختلف توجهاتهم فحسب، بل أجّجت غضبهم ونقمتهم.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي، كانت في الأيام الأولى للاحتلال الأميركي، عندما قبل سكرتيره العام، حميد مجيد موسى، الدخول في مجلس الحكم، واعتبر ممثلا عن طائفته
لم يكن معظم أفراد القاعدة الشعبية للحزب راضين عن تلك الخطوة التي رفضتها أيضا جماعاتٌ يساريةٌ عديدة، وقد التصقت تلك "الخطيئة" التي أطلق عليها بعضهم "لعنة بول بريمر" بالحزب، وأفقدته الكثير من هيبته، ومن مكانته التي عرف بها في السابق.
مناسبة التذكير بكل هذه الوقائع البيان الذي أصدره الحزب في ختام اجتماع المكتب السياسي أخيرا، والذي طرح فيه ما أسماها "رؤية ومشروعاً"، محاولاً من خلال ذلك إسدال الستار على حقبة السنوات العشرين الماضية التي تركت بصماتٍ سوداء في تاريخه الطويل، وهو لا يملك حجّة مقنعة في الدفاع عنها أو تبريرها.
ومن مكر التاريخ أن يقرّ الحزب في مشروعه بأن هناك "أزمة بنيوية في صلب نظام المحاصصة الطائفية الإثنية". وبالطبع، هذا النظام هو نفسُه الذي باركه الحزب سابقا، وعجز عن تشخيصه، بل واعتبره "مؤهلا لاستقطاب أوسع الجماهير وتحشيد إسنادهم له". وبديلا لما حصل، ولما هو ماثل، يدعو الحزب إلى "مشروع تغيير شامل يمثل الخلاص لأبناء الشعب من نظام المحاصصة"، وإلى "دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على العدالة الاجتماعية"، يقودها "تحالف سياسي قائم على أسس وطنية غير طائفية أو إثنية، مستند إلى برنامج سياسي وتنموي متكامل (..) ومشاركة شعبية في مشروع التغيير".
مبادرة الحزب بالقطع مع المرحلة السابقة تظلّ قاصرةً، ما لم يتبعها تقديم اعتذار عن "الخطيئة" الكبرى التي ارتكبها
تُرى .. هل تمثل هذه "الرؤية" أولى الخطوات نحو رجوع الشيوعيين العراقيين إلى صباهم، بعدما فقدوا البوصلة أمدا طويلا، وبعدما فشلوا في أن يقدّموا لجمهورهم، الذي كان يوما ما فاعلا ومتفاعلا، بعض ما يجعله يعيد ثقته بهم، وفي الذاكرة تلك الفترة الذهبية في تاريخ الحزب التي أعقبت ثورة 14 تموز (1958)، والتي استطاع فيها الحزب أن تكون له قاعدة جماهيرية واسعة، شكلت ضغطا على الزعيم عبد الكريم قاسم، عندما طالبته في تظاهرة مليونية بإشراك الحزب في الحكم، وكان أن استجاب قاسم، وعيّن محسوبين على الحزب في مناصب وزارية، لكنه عاد بعد حين، ونأى بنفسه عنهم، وتلك قصةٌ أخرى.
وعلى أية حال، فإن مبادرة الحزب بالقطع مع تلك المرحلة تظلّ قاصرةً، ما لم يتبعها تقديم اعتذار عن "الخطيئة" الكبرى التي ارتكبها، وما لم يُجرِ مراجعة نقدية صارمة لمواقفه وسياساته في المراحل السابقة، وما لم يتخلّ بعض من بقايا الحرس القديم عن فرض سطوته على التنظيم. عند ذاك، يمكن للحزب أن يعيد بناء نفسه، وأن يستعيد مكانته، وأن يضع مشروعه للتغيير على السكّة.