الشيف يُفسد الطبخة
على الأرجح، إنها "طبخة" خالية من الملح والبهارات، وإلّا لكانت أزيد إقناعاً للمتذوّقين. لكن يبدو أن الشّيف بريغوجين لم يطبخها على نار هادئة هذه المرّة، بدليل أن الوقت الفاصل بين إضرام النار وإخمادها لم يتجاوز بضع ساعات، ثمّ ما لبث أن انفضّ السامر، وعاد المتمرّدون إلى ثكناتهم.
لربما يبدو الأمر مستغرباً بعض الشيء من شيف ماهر يعرف جيداً ذوق سيّده بوتين، فلماذا غامر بحياته، وهو يدرك تمام الإدراك أن هذه الطبخة، تحديداً، أشدّ ما يمقته السيّد، كونها تتعلّق بالخيانة التي لا يمكن أن يغفرها، كما قال في أحد لقاءاته الإعلامية؟
تتعدّد الاجتهادات في هذه المغامرة غير المحسوبة للشيف بريغوجين، وأزيدها إقناعاً، ربما، أنّ الطبّاخ غيّر سيّده، بمعنى أنّ هذه "الطبخة" لم يجرِ إعدادها للسيّد الأول بوتين، بل لسادةٍ آخرين في واشنطن وأوروبا، أرادوا هزيمة روسيا من داخلها، بعد أن استعصت عليهم من الخارج، لا سيّما أنّ المأزق قد استفحل مع ملامح إخفاق ما سموه "الهجوم المضادّ". بحثوا عن انتصارٍ سريعٍ يحفظ عليهم ماء الوجه، فوجدوه في "طبّاخ الرئيس"، وراهنوا على أن تختلط الأوراق بهذه الردّة، ولا بأس إن اندلعت حربٌ أهليّةٌ تحسم من رصيد معنويات الجند الروس على الجبهات، فهذا مرحّبٌ به.
ربما كان هذا ما يفسّر "الطبخة" العاجلة، التي أرادوها. لكن يبدو أنهم لم يعرفوا بعد أنّ ثقافة "الوجبات السريعة" قد لا تكون صالحةً في بلاد أخرى، مثل روسيا، التي اعتادت أن تطبخ وجباتها في الجليد، بصبرٍ وأناة، ويطارد صيّادوها الأيائل أياماً في صحراء سيبيريا الجليدية.
هو محضُ اجتهاد غالب، في محاولة تفسير اللوثة المباغتة التي أصابت هذا الشيف الذي لم يقرأ الوصفة جيداً قبل الانصياع لرغبات سادته الجدد، ومن عجبٍ أنه غضّ الطرف عن خزينه المعرفيّ عن بلده وساسته، وإلّا لكان تريّث وأعاد الحسابات ألف مرّة، فروسيا بلدٌ لم يعرف الانقلابات منذ الثورة البلشفية مطلع القرن الماضي، باستثناء الانقلاب اليتيم الذي قاده فلول قادة الشيوعية على غورباتشوف في الوقت الضائع من انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانت النتائج محسومة سلفاً.
ولئن كان الغرب وأميركا حبسوا الأنفاس وهم يترقّبون أحداث هذا الانقلاب الهشّ، فثمّة ساسة عرب فعلوا ذلك، أيضاً، مؤيدين ومعارضين، على السواء، فالمؤيدون الدائرون في فلك أميركا أملوا أن ينجح، لتكريس هيمنة سيّدهم القديم الذي يخشون تغييره، وما يترتّب على هذا البقاء من توطيدٍ لعروشهم وامتيازاتهم، أما المعارضون الذين ينشطرون إلى قدامى وجدُد في مؤازرتهم بوتين، فقد توجّسوا خيفة من نجاح الانقلاب، فيخسرون الرهان على سيّدهم الجديد الذي يحمل لواء "القطبية الثنائية"، ما يعني أن عليهم أن يتوسّلوا سيدهم القديم في البيت الأبيض لإعادتهم إلى حظيرته، بما يتمخّض عنه من إذعانٍ مضاعف عقاباً لهم على "الخيانة"، وقد يصل الأمر إلى حدّ إزاحتهم عن عروشهم؛ لأنهم لم يعودوا موضع ثقة السيد.
وبالطبع، لا تقف هذه القسمة عند ساسة العرب، بل تطاول أغلبية "شيفات" دول العالم الثالث، الذين امتهنوا الطبخ لأسيادهم في واشنطن وموسكو، فالكلّ كان مذعوراً، باستثناء الشعوب التي تدرك تماماً أن "الخلّ أخو الخردل"، وأن انتصار أيّ قطبٍ على الآخر لن يقدّم أو يؤخّر في قضاياهم المصيرية، ولن يقدّم لهم المنتصر حرية أو تحريراً أو رفاهية، ولا حتى زيادة على رواتبهم. فكلاهما قطبٌ لا تستقيم له القطبية في العالم بغير طغاةٍ صغار يحكمون العالم العربي، والدول الثالثية برمّتها، وكلاهما على استعدادٍ لإطاحة أيّ نظام حكم ديمقراطي في دولنا إذا تعارض مع مصالحه واستراتيجياته، كما حدث في مصر وتونس وليبيا. وكلاهما لن يتورّعا عن تدمير أيّ شعبٍ يناهض نظام حكم يريد الإبقاء عليه، كما حدث في سورية.
هذا كله وغيره سيحدث، ما دمنا لا نبحث عن قطبنا الخاصّ، وما دمنا ارتضينا أن نظلّ محض "شيفات" يعدّون الولائم للسادة، ثم يقفون كالأيتام خلف الموائد.