الشعراء يندسّون بين المُخبرين

08 ديسمبر 2019
+ الخط -
يستعد القاص مصطفى تاج الدين الموسى لإصدار مجموعته القصصية الجديدة "ساعدونا للتخلص من الشعراء". سيثير هذا العنوان حفيظة الشعراء، حتى قبل قراءتهم محتوياتِ المجموعة، ولكنها قد تكون تسميةً مقبولةً في ما لو اتفقنا على ضرورة إيجاد جواب دقيق للسؤال التالي: مَنْ هو الشاعرْ؟ 
في معرض الجواب؛ لا بد أن نقسم الشعراء إلى قسمين: الشعراء الحقيقيون، والنَظَّامون. النَظَّامُ هو مَنْ يُتقن صناعةَ الشعر، فلا يرتكبُ في ما ينظمه خطأً فنياً واحداً، بل قد يمتاز نظمُه بالقوة والجزالة والفخامة. وأما الشاعرُ فتجد عنده الحب، والشفافية، والجمال، والوجدان، وتدفق الأحاسيس، والصور، وربما الحكمة، هذا مع الإشارة إلى أن الصناعة عند الشاعر الحقيقي قد تكون أقل متانةً من صناعة النَظَّام القدير.
الشعراء أنفسهم ذوو مستويات إبداعية متفاوتة، وكذلك النَظَّامون. وحول الشعراء الكبار والنظامين الكبار ثمة كَمٌّ هائلٌ ممن تنطبق عليهم تسمية "الفراطة"، أو "الطحالب".. أو: "المُتَكَسِّبُون بالشعر".. وهذه الفئة الأخيرة تأخذنا إلى منطقةٍ خطيرة ضمن هذا المبحث، وهي: شيوعُ المُخْبِرين بين الشعراء، وشيوعُ الشعراء بين المُخْبِرين، وكان هذا (في سورية) يقترن بأجواء الاحتفال بالأعياد القومية التي كانت في السابق تقتصر على الثامن من مارس/ آذار، والسابع من إبريل/ نيسان، والسادس من أكتوبر/ تشرين الأول، والسادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، ثم أضيف إليها بعد يناير/ كانون الثاني 1994 ذكرى مقتل باسل الأسد، وبعد العاشر من يونيو/ حزيران 2000 ذكرى وفاة حافظ الأسد.
بقدر ما كانتْ المقدرةُ على نظمِ شعر المديح نعمةً تدرُّ على المتكسبين أموالاً، وفتاتَ موائد، ومناصبَ قياديةً صغيرة، بقدر ما كانت نقمةً على الشعراء المنشغلين بهموم الوطن والحرية والجمال، ولا سيما حينما تقتربُ إحدى المناسبات القومية التي أشرنا إليها، وبالأخص مناسبة الحركة التصحيحية الكارثية التي تؤرخ لاحتلال حافظ الأسد سوريةَ، وبدئه التأسيسَ للخراب الذي وصلنا إليه بعد نصف قرن من حكمه وحكم وريثه.. فقبل حلول المناسبة الكارثية بحوالي شهر، كان العاملون في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ومختلف الوزارات، وخصوصاً وزارتي الإعلام والثقافة، يستنفرون، ويبدأون التحضير للمهزلة السنوية الكبرى التي يتعطّل فيها الإنتاج، ويُهدر المالُ العام، وتصبحُ الدوائر الحكومية شبيهة بـ"الرزق الداشر الذي يعلم الناسَ الحرام"، ويكون الطلبُ على النظّامين وأشباههم ضمن هذه "الهمروجة" أكثر من الطلب على الخطاطين والرسامين وصانعي التماثيل والطبالين والزمارين، والدَبّيكة، ويبدأ الشعراء الحقيقيون بالتخفّي، وكل واحد منهم يعقد اجتماعاً طارئاً مع زوجته وأولاده ويقول لهم: أي تلفون يأتيني من الإذاعة، أو التلفزيون، أو الجريدة التي أكتب فيها، أو أحد فروع اتحاد الكتاب العرب، أو المراكز الثقافية، قولوا له: بابا مو هون.. ولكن لا تفعلوا مثلما يفعل الأطفال في الأغنية الهزلية عندما يقولون لمن يطلب الأب: بابا بيقلك هُوّي مو هونْ! وهكذا يمرّر الشاعر هذه المناسبة الحقيرة من دون أن يضطر لتشويه سمعته، وضرب تاريخه بكتابة أشعار سخيفة يمتدح فيها الديكتاتور القاتل..
وكان تخفّي الشعراء، والكتاب، خلال المناسبة الكئيبة، ممكناً إذا كانوا غير موظفين في الصحف. وأما الموظف فكان يتعرّض، مع حلول المناسبة، إلى امتحان عسير، فإما أن يكتب مادحاً الديكتاتور، أو يصبح واحداً من المغضوب عليهم، المحرومين من أي مزايا، المهدّدين بالاعتقال لدى أول خطأ مهني يرتكبونه في المستقبل. ولعل من أطرف ما حدث في تلك الأيام أن شاعراً روائياً كان يجالس الأدباء والفنانين المعارضين، ويزعم أمامهم أنه "معارض" مثلهم وزيادة. وفي ذات يوم، كتب قصيدة مديح لحافظ، ونشرها باسمه الصريح، وحينما جاء إلى مجلسهم انفضّوا عنه، وتذرّع كل واحد منهم بأن لديه عملاً يشغله.. ولم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن يكتب بهم تقريراً جماعياً، ولمَ لا يكتب طالما أن أوراقه كشفت؟
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...