السيسي ورسائل جنازة جيهان السادات
تجنَّدت أجهزة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وأذرعه الإعلامية والأمنية، بمناسبة وفاة زوجة الرئيس الأسبق، أنور السادات، لتضخيم هذا الحادث وإظهاره غير عادي، ولتكريس استثنائية صاحبته بوضوحٍ فاقعٍ. وتكلَّلت كل تلك الأعمال بمشاركة السيسي نفسه، وكل مسؤولي نظامه في الجنازة الرسمية التي أقيمت لها، من أجل هدفٍ واحدٍ، توجيه رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى الشعب المصري أولاً، وإلى الأطراف الدولية ثانياً. وتتعلق بنهج السادات، وبالدور الذي ارتضاه السيسي لنفسه لبثّ الروح في ذلك النهج، وتأكيد استمرار سيره في مسيرة التطبيع الذي خطَّها، علَّ ذلك يصبّ في جهده الدائم لتثبيت حكمه أكثر، وسط الاهتزازات المحيطة.
ليس لدى السيسي من الأسباب الموجبة التي تدفعه إلى تنظيم جنازة عسكرية لجيهان السادات، أو ما يبرّر له ذلك، وهي التي لم تتقلَّد يوماً منصباً رسمياً في البلاد، لا خلال فترة حكم زوجها ولا بعده. بل حتى إن نيلها الدكتوراه في الأدب المقارن، وعلى أساسها أصبحت محاضرةً في جامعة القاهرة وجامعة أميركية، رافقه لغطٌ كثير يومها، بشأن من أعدَّ لها البحوث التي تقدّمت بها لنيل الشهادة. وعلاوة على أنها أول جنازة عسكرية لامرأة في تاريخ مصر، فإنها تأتي في ظروف القلق التي يعيشها الشعب المصري على مستقبله، بسبب النزاع الذي يصاحب إكمال تشييد سد النهضة الإثيوبي، واقتراب فترة الملء الثانية لخزّانه التي ستحجز مياه الفيضان وتحبسها عن مصر والسودان، وهي الخطوة التي ربما تعد بداية التهديد الجدّي للحياة في البلدين. وإذا لم تكفِ السيسي الجنازة العسكرية لإعادة الاعتبار لنظام السادات الذي اعتمد إهانة المصريين عبر الصلح مع عدوهم الإسرائيلي الذي قتل أبناءهم، يأتي نعي الرئاسة المصرية المرأة ليكمل ذلك.
في كل مرة يتخذ السيسي من حادث ما مناسبةً يتعمّد بها توجيه الإهانات لهذا الشعب ولتضحياته، ما دام باقياً على رأس سلطة الانقلاب
تقول الرئاسة في خطاب النعي عن أنور السادات إنه "رجل الحرب والسلام"، وقد ساندته زوجته الراحلة في ظل أصعب الظروف وأدقّها حتى قاد البلاد إلى تحقيق "النصر التاريخي" في حرب أكتوبر 1973. وفي هذا القول تناقضٌ مع رؤية السيسي لهذه الحرب، وإهانة للشعب المصري في الحديث عن "رجل السلام" في الوقت عينه، فالسيسي قال، في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة، في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، إن تلك الحرب كانت محاولة انتحارٍ، بسبب الفارق بين الجيشين، المصري والإسرائيلي، مقللاً من تضحيات أبناء الشعب المصري وما أنجزه خلالها. أما حديث الرئاسة عن السادات باعتباره بطلاً للسلام، ففيه تعظيم لذلك السلام مع الإسرائيليين الذي يحتفظ المصريون في ذاكرتهم بكثير من أنواع الهوان الذي ألمَّ بهم بسببه.
لذلك، ومع استحضار صورة السادات رمزاً، وتكريم أرملته على هذه الشاكلة، ليس من الصعوبة اكتشاف تعمُّد السيسي إهانة المصريين في هذه المناسبة ومناسبات عدة سبقتها. ففي كل مرة يتخذ من حادث ما مناسبةً يتعمّد بها توجيه الإهانات لهذا الشعب ولتضحياته، ما دام باقياً على رأس سلطة الانقلاب التي تدير البلاد بعقلية المنتقم ممن تجرّأوا على رفض النظام ونادوا بإسقاطه. قبل ذلك لم يرَ السيسي حاجة في أن يلمِّح إلى أنه سيكون دائماً بالمرصاد لأحلام المصريين في التغيير؛ إذ قالها علانية، سنة 2018، حين جزم مهدّداً "احذروا! الكلام اللي اتعمل من سبع تمن سنين مش حيتكرر تاني في مصر"، ويقصد بذلك ثورة 25 يناير في 2011، التي أطاحت الرئيس الأسبق، حسني مبارك. وفي هذا السياق، يمكن استحضار إقامة السيسي جنازةً عسكريةً لمبارك، وسط أبهة التكريم التي أحاطت بموته، متعمداً بذلك الإيحاء للمصريين بأن الرجل الذي خلعته ثورتكم، ها أنا ذا أُعيد الاعتبار إليه وإلى صورة النظام التي كان يمثلها قبل تلك الثورة. يومها، تعجَّب المصريون كيف تقام جنازة عسكرية له، إذ إن إدانته ونجليه، في قضية القصور الرئاسية، وهي التي اعتبرها محللون "مخلّة بالشرف" تمنع إقامة جنازة عسكرية له. هذا إذا ما أردنا غضّ النظر عن أنه حوكم بتهم الإضرار بالمال العام وقتل أبناء الشعب المصري خلال ثورة يناير، في ما عرف يومها بحادثة "موقعة الجمل" التي راح ضحيتها قتلى وجرحى من المعتصمين في ميدان التحرير في القاهرة.
تأتي جنازة جيهان السادات والتكريم اللافت لها في خضم ازدياد حدّة النزاع مع إثيوبيا بسبب سد النهضة وقرار الأخيرة ملء خزانه
ربما يريد السيسي بهذه الجنازة، وبنعي الرئاسة المصرية جيهان السادات، ونعي وزارة الأوقاف لها، ثم قراره منحها "وسام الكمال"، وإطلاق اسمها على أحد محاور الطرقات، ربما يريد توجيه رسالةٍ إلى المصريين مفادها: إن من يقف معنا نُعلي شأنه ونُكرمه في حياته ومماته، ومن يقف ضدنا ويعارضنا لدينا أقبية كثيرة تستضيفه حتى مماته. ولا عجب في إغداق السيسي على جيهان كل هذا الإغداق، إذ كانت من أول المطبِّلين لانقلابه، وقالت في لقاء تلفزيوني: "ربنا أرسل لنا الرئيس عبد الفتاح السيسي لكي ينقذ مصر من حكم الإخوان المسلمين". وليس غريباً، في هذا السياق، إشارة التلفزيون المصري والأذرع الإعلامية إلى أن من يعطون مصر (ويقصد من يقفون إلى جانب نظامها)، فإن مصر لا تنساهم.
تأتي هذه الجنازة وهذا التكريم اللافت في خضم ازدياد حدّة النزاع مع إثيوبيا بسبب سد النهضة وقرار الأخيرة ملء خزانه، من دون مراعاة المخاطر المترتبة بسبب ذلك على مصر والسودان. وفي هذه البهرجة التي صاحبت الجنازة محاولةٌ لتلميع صورة السيسي ونظامه، بعدما لحق بها من مهانة، وبعد ظهوره بمظهر المفرِّط بحقوق مصر وشعبها، والعاجز عن فعل شيءٍ يمنع الكارثة التي ستحدق بالبلاد. وإذا كانت هذه رسائله إلى الداخل، فإنها أيضاً رسائل إلى الخارج، تفيد بأنه سيبقى وفياً لنهج التطبيع، على الرغم من درايته بما يقدّمه أصدقاؤه في دولة الاحتلال الإسرائيلي للإثيوبيين من مشورةٍ ومن أسباب القوة التي تقوِّي شوكتهم إزاء أعين المصريين والسودانيين.