السيسي مخذولاً

25 أكتوبر 2020
+ الخط -

لا تثريب على عبد الفتاح السيسي، عندما يوجه سهام التقريع إلى مثقفي مصر الذين "خذلوا" فخامته، حين لم يسعفه أحد منهم بأي اقتراح مفيد أو خطة بناءة لمعالجة مشكلات الدولة، تعليميًّا وصحيًّا واقتصاديًّا.

بدا الرجل مصابًا بخذلان عميق، وهو يشكو المثقفين إلى شعبه، في أحد مؤتمراته أخيرا، الذين كان ينبغي لهم أن يبذلوا له عصارة أفكارهم، لمعاونته ومشاركته في اتخاذ قرارات مصيرية تمسّ حياة المواطن ومستقبله، بوصفه رئيسًا مولعًا بالديمقراطيّة والمشورة، والإصغاء إلى الرأي الآخر، واعتماده إن كان يصبّ في المصلحة العامة، فلماذا قابل المثقفون الإقبال بالإدبار، وضنّوا على رئيسهم المنتخب "عسكريًّا"، ولو بمقترح واحد، على الرغم من كثرتهم وخبرتهم؟

هذا السؤال موجه، حصرًا، إلى حسن نافعة، المثقف المصري المرموق، الذي آزر انقلاب السيسي في بدايته، وكان من أشد المنتقدين لنظام سلفه المنتحب ديمقراطيًّا، والذي يتوفر على أفق فكريّ واسع، وسبق له أن تولى الأمانة العامة لمنتدى الفكر العربي في عمّان، وقبلها رئاسة قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وصاحب عديد المؤلفات والمقالات المتخصصة، غير أنه لن يجيب، بالطبع؛ لأنه ما لبث أن اكتشف مبلغ خديعته بالسيسي وزبانيته، وهو الاكتشاف الذي أودى به إلى السجن لاحقًا.

وكان يمكن الانتقال بالسؤال إلى مثقف اقتصادي آخر، هو حازم الببلاوي، الذي لا يختلف اثنان على سعة فكره وتمرّسه، فضلًا عن أنه لعب دورًا بارزًا في طمس مرحلة الرئيس الراحل محمد مرسي، بقبوله أول منصب لرئاسة الوزراء عقب الانقلاب الدموي. والأدعى، إذن، أن يكون في مقدمة الملبّين لاستغاثة زعيمه السيسي بمقترح أو خطة أو نصيحة حتّى. غير أنه آثر، على ما يبدو، الفرار بما تبقّى من فلول سمعته التي تلطخت بمجازر العسكر، مفضّلًا أن يعود إلى عرينه الأول مديرًا تنفيذيًّا في صندوق النقد الدولي.

وعلى غرار هذين المثقفيْن انفضّ الآخرون من حول السيسي، إما إلى السجون أو إلى المنافي الطوعيّة؛ ليجد الرجل نفسه وحيدًا في مواجهة أزمات بلاده، تمامًا كحاله وحيدًا على كرسيّ لا يتسع لأي شريك آخر على هرم السلطة.

لكن، وعلى قاعدة المثل "إن خلَتْ بلتْ"، كان في وسع جنرال الثكنات والمدن أن يلجأ إلى "مثقفين" آخرين، وضعوا أنفسهم، من بداية الانقلاب، في إمرة بسطاره العزيز، ولم يخذلوه حتى ساعة إعداد شكواه. صحيحٌ أن حظهم من الفكر والثقافة لا يتجاوز فنون المدح والقدح والردح، غير أنهم سيكونون أول من يلبي نداء الزعيم، خصوصًا منهم عمرو أديب الذي يجيد "حبك الخطط" إجادته فنون الطبخ، ولن يجد صعوبة في تقديم "خلطةٍ سرية" لتطوير التعليم والاقتصاد، وغزو الفضاء إن تطلب الأمر، فالمهم عنده أن يدسّ لسانه قبل رأسه في كلّ ما يظهره نجمًا أمام الزعيم. وكان من المرشّحين أيضًا رهط غفير لا يبدأ بمحمود سعد وخيري رمضان وتامر أمين ومصطفى بكري ولميس الحديدي وإبراهيم عيسى وأحمد موسى وغيرهم، ولا ينتهي بجوقة طبّالين من الوسط الفني، تحولوا إلى كورس في مسرح السيسي.

كان في وسع كل هؤلاء أن ينتشلوا الزعيم الذي وهبوه ألسنتهم من حرجه، ويكفوه عناء البحث والتمحيص عن خطة إنقاذ وطنية، غير أنهم، والحقّ يقال، صدموا بتصريح جنرالهم الذي لم يُشعرهم بحاجته إليهم في هذا الحقل، وإلا لكانوا هبّوا للنجدة. أما لماذا لم يستعن بهم السيسي كما فعل في معرض الحاجة إلى تظهير صورته وتطهيرها من دم ضحاياه، فلأنه يعلم جيدًا أنهم لن يضيفوا إلى ضحالته الفكرية جديدًا، وسيصبح حاله كخائب يطلب العون من فاقد الرجاء.

والأهمّ من هذا وذاك أن أخلاق المنقلب على الحريات والديمقراطيات وثورات الربيع لا يرى المثقفين إلا من فوهة مسدّسه ومقدمة بسطاره، وأن آخر ما يفكر فيه أن يكون له شريك في اتخاذ القرار، فكرسيّ الحكم لا يتسع إلا له..

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.