السيسي رئيس مصر!

29 سبتمبر 2019
+ الخط -
لم يكن ممكناً في أي يوم أن تذهب الديكتاتوريةُ في مصر إلى المدى الذي بلغته في سورية حافظِ الأسد وعراقِ صدّام حسين، حيث تحولتْ إلى حالة استبدادية متقدّمة، لا يُعْتَبَرُ ضربُ الشعب بالسلاح الكيميائي حَدَّها الأقصى. كلمةُ السر التي يمكن أن تفيدَنا في تفسير استعصاء مصر على الديكتاتورية القصوى (برأي الكاتب) تتعلق بالدولة المصرية العريقة، والشعب المصري الذي يتمتع بنسبة تعلو وتنخفض من الحرية والمواطنية والإبداع الحضاري. 
دخلت مصر إنتاج السينما أول مرة في سنة 1895، في حين لم تكن معظم الشعوب العربية تعرف ما هي السينما. وأنتجتْ، منذئذٍ، ما لا يحسب الحاسب من الأفلام، وبضمنها الاستعراضيةُ التي تستمد وقائعَها من عالم الملاهي والمواخير والبلاجات، واحتكرتْ، من دونَ أي منافس، عالمَ الريادات، ريادةَ المسرح، والقصة القصيرة، والرواية، والقصيدة الحديثة، والمقامة، والمقالة، والشعر الحلمنتيشي، والتراجيديا، والكوميديا، والصحافة.. ويعود تأسيس أحزابها السياسية إلى سنة 1907، وفيها هيئات تشريعية "مجلس شورى النواب" منذ سنة 1886.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، كانت إحدى الفرق العربية تتهيأ لإقامة حفل فني في برلين، وفي أثناء البروفات، سَمِعَ قائدُ أوركسترا ألماني عناصرَ الفرقة يتمرّنون على عزف لحن أغنية "زوروني كل سنة مرة"، فتقدّم منهم، واستأذنهم بسؤال عن صاحب هذا اللحن الرائع. قال له قائد الفرقة العربية: هذا اللحن للشيخ سيد درويش. قال: هل هو موجود بينكم؟ فرد عليه بأنه توفي سنة 1923، وكان قد أبدع هذا اللحن في سنة 1917.
قبل الشيخ سيد درويش، كان ثمة مطربون وملحنون وعازفون كبار، ولكن "الشيخ سيد" كان يحملَ لواء التجديد، يستمد كلمات أغانيه وألحانَها من روح الشعب (يلا بنا على باب الله يا صنايعية.. تلوم علي ازاي يا سيدنا، وخير بلادنا مهوش في إيدنا)؟
قادت مصر النهضةَ العربية في مختلف المجالات، السياسية، والفنية، والفكرية. ومنها انطلقت دعاوى الإصلاح الديني على يد علماء مصلحين كبار، وطالب طه حسين الأمة العربية بإعادة النظر في الشعر القديم.. وفي وقت مبكر جداً من القرن العشرين، وعدا عن شعراء الفصحى، أنجبت مصر شعراء غنائيين كباراً، أمثال أحمد رامي، وبيرم التونسي، وعبد الرحمن الأبنودي، وبديع خيري، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، ومرسي جميل عزيز. وملحنين عباقرة كزكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد القبصجي، ومحمد الموجي، ومحمود الشريف.. هذا كله ونحن لم نحكِ عن أم كلثوم التي اعتبرها عبد الوهاب، بحق، معجزةً قومية. ولم نذكر أن أول مَن غنّى اللحن الشائع "بنت الشلبية" هي السيدة منيرة المهدية التي كانت تُلَقَّب "السلطانة".. وعلى ذكر الألقاب، عرفت مصر أمير الشعراء أحمد شوقي، وكوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي لقبوه أيضاً الهرم الرابع، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ..
على الرغم من أن جمال عبد الناصر قَدِمَ إلى حكم مصر من عالم العسكر، وحاول أن يكون قائداً فرداً مستبداً، إلا أن ديكتاتوريته كانت أقرب إلى "لعب العيال" بالمقارنة مع ديكتاتوريَيّ سورية والعراق، فهو لم يبالغ في حراسة نفسه، ولم يسرق من مال الشعب، مثلما فعل حافظ ووريثه، والسجون التي وُجدت في مصر حتى الآن لا تساوي، مجتمعةً، نقطةً من بحر سجن تدمر. وقد كان بإمكان رجل مصلح، مثل خالد محمد خالد، أن يقول لعبد الناصر وجهاً لوجه: إن ثورة 23 يوليو كانت خطوة إلى الوراء في مجال الديمقراطية وحقوق المرأة. وكانت الصحافة تكتب وتنتقد، والتلفزيون لم يقصّر. ولعل أكثر ما يلفت النظر أن النجم التلفزيوني باسم يوسف كان يتألق في انتقاد الرئيس محمد مرسي، ولم يتعرّض سوى لمضايقات بسيطة. .. فهل يليق، برأيكم، واحدٌ كعبد الفتاح السيسي أن يكون رئيساً لمصر؟
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...