السياحة العمياء

08 يناير 2022
+ الخط -

بالتأكيد، لا يمكن للسينما أن تقدم النبوءات، لكنها يمكن أن تستبق الواقع، من خلال قراءته، والتعمق في قراءة معطياته، ما يجعلها تتناول تفاصيل لا يراها العابرون، فتنجح في الإشارة إلى ما سيحدث. حدث هذا في عام 2019، حينما سبق فيلم "مترادفات" (Synonyms) للمخرج الإسرائيلي، ناداف لابيد، الواقع الحقيقي فعلياً، حيث حكى الشريط الحائز جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي للعام نفسه، قصة بسيطة عن شاب يغادر "بلده" هرباً من واقعه (مجند سابق في الجيش)، محاولاً اللجوء إلى فرنسا! .. ليحدث الأمر فعلياً في نهاية عام 2020، في بريطانيا، عندما قدّم شاب إسرائيلي حاخامي (من اليهود الأرثوذكس) طلب لجوء هناك، بناء على رفضه الالتحاق بالجيش، حيث يمكن، وبحسب الأسباب التي أعلنها للمحكمة، أن يتم إجباره على ارتكاب جرائم حرب.

لا يبدو الربط بين مضمون الفيلم وقصة هذا الشاب متاحاً وميسراً لمن لا يتابع اليوميات الإسرائيلية، وهو سيكون صعباً، وغير ممكن لمن يستسلمون للدعاية القوية والمزركشة بالألوان عن "البلد الجميل" الذي "يشكل منارة في محيطه المظلم"، خصوصا إذا كان منبع مثل هذا الترويج الساذج هو بلدان عربية، كدولتي الإمارات والبحرين، اللتين بات تطبيع علاقتهما مع تل أبيب، يتجاوز اتفاقيات أبراهام، ليشمل شؤوناً ثقافية وسياحية.

الكتلة الرجراجة من الثقافيين والإعلاميين العرب الذين اندفعوا ليخوضوا في نشوة "النوم مع العدو"، وهذا تعبير نستخدمه هنا بمضمون أخلاقي سياسي، وليس حياتيا يوميا. وعلى الرغم من إمكانية تحرّي الوقائع بالجوانب المحيطة بتفاصيل ما هم مقدمون عليه، اكتفوا فقط برؤية المنشورات السياحية عن مدينة إيلات، ولم يبحثوا مثلاً في السجلات الجرمية، أو فيما ينشره إعلاميون وناشطون إسرائيليون عما يحدث في كواليس عوالمها السوداء.

اغتصب ثلاثون رجلا، في منتصف شهر أغسطس الماضي، فتاة مراهقة (16 سنة) في فندق البحر الأحمر، بالقرب من أمكنة إقامة حفلات ملكات الجمال

ومن هذا، وعلى سبيل المثال، اغتصاب ثلاثين رجلا، في منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، فتاة مراهقة (16 سنة) في فندق البحر الأحمر، بالقرب من أمكنة إقامة حفلات ملكات الجمال، وتصوير بعضهم للجريمة، ونشرهم الأفلام في شبكات السوشال ميديا.

وتكشف تفاصيل القصة التي ضج الإعلام بها عن تجاوزات متكرّرة، تتعلق بعدم وجود ضوابط أخلاقية لدى المنظومة الذكورية السائدة في هذا المجتمع، تجاه القُصَر، وحتى تجاه النساء، إذ كان يكفي أن تطلب المراهقة المخمورة مكاناً لكي تُنعش نفسها فيه، حتى يقتادها بعض الرجال إلى إحدى الغرف، ليتناوبوا على اغتصابها، غير أن الكارثة الأكبر وقعت لاحقاً، فما إن انتشر الأمر بين نزلاء الفندق، حتى اندفع آخرون كثر، ليشاركوا في الواقعة.

العار الذي لحق بالنشاط السياحي المزدهر في إيلات بسبب هذه القصة، ربما كان يحتاج لمحوه، حملة تسويق ضخمة، كالتي انطوت عليها احتفالات مسابقة ملكات الجمال التي شكلت حجة ليقوم بعض العرب بزيارة إسرائيل، و"الاستمتاع" بما رأوه فيها.

تقارير صحافية مهمة، تحدثت عن حوادث وكوارث، جرت وتجري على يد الإسرائيليين

ولكن ما الذي سيمحي عار هؤلاء أنفسهم؟ وهم يصرّحون، أمام الكاميرات، عما شهدوه من "حضارة" إسرائيل المجهولة بالنسبة لهم، والتي كانت ضحية للبروباغندا العربية ضدها، في الوقت ذاته الذي تنتشر فيه حول العالم تقارير صحافية مهمة، عن حوادث وكوارث، جرت وتجري في هذا المكان وغيره على يد الإسرائيليين! حيث يذكّر الصحافي الفرنسي، جان ستارن، في تغطيته واقعة الاغتصاب المذكورة أعلاه بحادثة أخرى وقعت هذه المرّة في قبرص، في 17 يوليو/ تموز 2019، حيث اتُهم قرابة 12 إسرائيلياً باغتصاب سائحة بريطانية تبلغ 19 سنة، في مدينة أيا نابا السياحية، لكنهم نجوا من العقوبة، بعد أن برّأتهم المحكمة القبرصية، واتهمت الضحية بتقديم شهادة زور، على الرغم من أن المغتصبين صوّروا فعلتهم، ونشروها على الإنترنت أيضاً!

ما يتم تجاهله في الأخبار المحلية وصفحات الحوادث لن تتجاهله الدراما والسينما، فالمشوّق هناك مشوق هنا أيضاً، مع تفاصيل أوسع، وجرعات أعلى من محاولات التحايل على الواقع، ليس من أجل تجميله أمام المواطن المحلي، بل من أجل الحفاظ على صورة إسرائيل التي يمكن لمواطنيها فقط أن ينتقدوا تفاصيل ما يجري فيها، من أجل الحفاظ عليها ذاتها!

حجم غير قليل من الفساد في البيئات المتعدّدة المحلية، الممتدة من الأوساط المتدينة إلى تلك العلمانية!

ولكن، يمكن الجزم بأن من يسوّقون الآن المستنقع، بعد أن غرقوا فيه، بحجة أن مياهه أبرد، وأن ضفافه أرطب من الصحاري العربية التي قدموا منها، لم يشاهدوا أيا من المسلسلات الإسرائيلية التي باتت متاحة على شبكات منتشرة عالمياً وعربياً كنتفليكس، التي عرضت غير مسلسل ذي توجّه داخلي، ويكشف عن حجم غير قليل من الفساد في البيئات المتعدّدة المحلية، الممتدة من الأوساط المتدينة إلى تلك العلمانية!

ولكن قبل هذا وذاك، ألا يستطيع هؤلاء أن يلتفتوا إلى واقع الفلسطينيين أصحاب القضية أنفسهم، وأن يروا أراضيهم المسلوبة، وحيواتهم المدمّرة، لكي يستردّوا بعضاً من الموضوعية على الأقل، تخفّف من قباحة ما يهذرون به هنا وهناك؟ بالتأكيد يمكنهم فعل ذلك، لكن بعض السياحات مدفوعة الأجر والتكاليف، تحتاج الكثير من العماء!