السوريون بين التطلّع الديمقراطي والواقع المعاش

24 ديسمبر 2024

المحاسبة شعاراً في احتفالية في حلب رعتها منظمة الإغاثة السورية (22/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

ليس النظام الديمقراطي النظام المثالي الذي لا تشوبه أيّ شائبة، ومع ذلك يظلّ (مقارنةً بالأنظمة الأخرى) أفضل الأنظمة الممكنة. والنظام الديمقراطي الفعلي، وليس الاسمي الشعاراتي، يتعارض مع وجود قوىً عسكريةٍ أو مسلّحةٍ مؤثّرةٍ في العمل السياسي، تفرض نفسها وسياساتها بالقوة، ولا تقرّ بالقيم والقواعد الديمقراطية، ما عدا قاعدة الأغلبية الانتخابية، التي غالباً ما تكون، في ظلّ هيمنة القوى العسكرية، وغياب الأحزاب السياسية الشعبية المؤثّرة، سهلة التحقّق لمصلحة الجهة أو الجهات المتحكّمة في السلاح والحكم والثروة والإعلام، لأنّها قادرة على توجيه الرأي العام ضمن إطار هذه الطائفة أو تلك، هذه القومية أو تلك بفعل اعتماد الأيديولوجية الدينية أو القومية وسيلةً للتجييش والتعبئة، والتصرّف مع الطائفة أو القومية، وكأنّهما من ممتلكات القوى المعنيّة، لدرجة أن الأمر قد يبلغ درجةَ تكفير أو تخوين الأصوات المطالبة بحرّية النقد، والقطع مع سياسات القمع والاستئثار بالحكم، ورفض الخضوع لأيّ مساءلة أو محاسبة أمام المؤسّسات الشرعية، التي تمثّل الركن الأساس في أي نظام ديمقراطي.
إلى جانب المؤسّسات الأساسية في أيّ نظام ديمقراطي (البرلمان، مجالس المحافظات والبلديات، الحكومة والإدارات، القضاء... وغيرها)، يستوجب النظام الديمقراطي وجود أحزاب سياسية متعدّدة تمتلك حرّية التنظيم والتعبير وطرح البرامج الانتخابية.

هناك حاجّة ملحّة إلى كتابة دستور سوري، من أناس يشهد لهم بالوطنية والخبرة واحترام سائر المكوّنات المجتمعية والسياسية

كما أن النظام الديمقراطي يظلّ كسيحاً من دون وجود منظّمات مجتمع مدني فاعلة على اتصال مع مختلف الأوساط والشرائح المجتمعية، ويمكّنها في الوقت ذاته من القيام ببعض المهام التي تهملها الحكومة أو لا تركّز فيها، الأمر الذي يخفّف من أعباء هذه الأخيرة بعض الشيء. من جهة أخرى، تستطيع منظّمات المجتمع المدني نقل آراء الناس وطبيعة معاناتهم ومشكلاتهم إلى الحكومة، والتباحث بشأنها مع الجهات المختصة المسؤولة فيها في إمكانية اعتماد أفضل المقاربات والحلول لمعالجة المشكلات المعنيّة. ويمكن اعتبار النقابات والجمعيات المستقلّة الحرّة النواة الأساسية لأيّ مجتمع مدني يكون في موقع المراقب للحكومة، وعوناً لها في تأمين احتياجات الناس وتخفيف معاناتهم في مختلف الميادين، وفي مختلف المستويات. هذا مع ضرورة الإشارة إلى المخاطر الجدّية التي تتعرّض لها اليوم الأنظمة الديمقراطية الناضجة المستقرّة في العالم، خاصّة في الغرب. ومن أهم هذه المخاطر النزعات الشعبوية والعنصرية والانعزالية.
وبناء على ما تقدّم، نرى أن الدعوات المُطالِبة باعتماد النظام الديمقراطي في مجتمعات لا توجد فيها الأحزاب الفاعلة الراسخة، وتفتقر إلى النقابات ومنظّمات المجتمع المدني المستقلّة القادرة على ممارسة نشاطاتها بكلّ حرّية وأريحية، مجتمعات تعاني غياب وجود قضاء عادل... ما نراه في هذا السياق، أن الدعوات المعنية لا تتطابق مع الواقع المعاش، بل تكون أقرب إلى النزعة التبشيرية التي سادت مجتمعاتنا في ما يتّصل بالأيديولوجية القومية، ومن ثمّ الاشتراكية، وذلك في سياق التقليد الذي عادةً ما يعتمده الضعيف أو التابع في محاولة منه للتشبّه بالقوي أو المتبوع أو الغالب، وقد تناول ابن خلدون (بناءً على تجاربه وخبرته ومعارفه) هذا الموضوع ببراعة منهجية ما زالت تستوقف علماء الاجتماع والباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية المختلفة.
ما يمكن أن تبلغه مجتمعات منطقتنا، ومنها مجتمعنا السوري على وجه التحديد، باعتباره الأكثر مناقشة هذه الأيام في مناخات التحوّلات الكبيرة التي شهدها، وسيشهدها في المرحلة القريبة المنظورة، وعلى الأرجح في المراحل المستقبلية، لن يتجاوز حدود الدمقرطة إذا صحّ التعبير. وما نعنيه بذلك الانفتاح على إمكانية الأخذ بالنظام الديمقراطي في الحكم، مع أخذ الخصوصية السورية بعين الاعتبار. ومن المفروض أن تأخذ عملية الدمقرطة هذه في حسابها احترام الرأي الآخر المختلف، والإقرار بحقوق سائر المكوّنات، ومراعاة خصوصياتها، بغضّ النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية والقومية، وحتى المناطقية. هذا بالإضافة إلى احترام حقّ المرأة في التعليم والعمل والمشاركة الفاعلة في الحياة العامّة، ولا سيّما السياسية، وحظر أيّ محاولة أو محاولات تستهدف الحدّ من حرّياتها الشخصية، بما في ذلك حقّها في اختيار لباسها، وحقّها في إبداء الرأي والنقد، سواء ضمن إطار حياتها الأسرية، أو على صعيد الحياة المجتمعية والسياسية العامّة.

ما يضفي على هذه المرحلة السورية الراهنة المزيد من التعقيدات أنها تأتي بعد 54 عاماً من الحكم الاستبدادي

ومن أجل الوصول إلى نظام ديمقراطي عادل مستدام، يقطع الطريق أمام احتمالية عودة الاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله، هناك حاجّة ملحّة إلى كتابة دستور عصري متوازن، يكتبه أناس يشهد لهم بالوطنية والخبرة واحترام سائر المكوّنات المجتمعية والسياسية السورية، من دون أيّ تمييز أو استثناء، يُتوافق عليهم ضمن أطر تمنحهم الشرعية. والدستور المطلوب هو الذي يؤكّد ضررورة اعتماد النظام المدني، ويشدّد على أهمية احترام الهُويَّة السورية الواقعية القائمة على التنوع والتعدّد، لا الهُويَّة التي تحاول فرض اللون الواحد في واقع متنوّع بطبيعته. فسورية بطبيعتها المتنوعة على الصعيد السكّاني لا تتحمّل التعصب الديني أو القومي أو الأيديولوجي، بل هي تحتاج إلى طاقات سائر مكوّناتها المجتمعية. وهذا ليس معناه التشكيك في حقيقة أن العرب يمثّلون في سورية الغالبية القومية، والسنّة يمثّلون الغالبية الدينية المذهبية، ولكن لا بد من الإقرار بحقوق جميع المكوّنات مهما كانت أحجامها، حتى يشعر الجميع بأن الوطن وطنهم، والدولة دولتهم، وبذلك يُؤسّس لعقلية وطنية تفتح الآفاق مستقبلاً أمام تشكيل الأحزاب الوطنية، التي تطرح برامج وطنية تهمّ سائر المكوّنات، ويتم بذلك تجاوز الأحزاب القومية أو الدينية التي ترسّخ الرؤية الشاقولية التي تقوم على الحجم العددي المجتمعي، وليس الغالبية السياسية التي تتجاوز عقلية المحاصصة، والتخندقات الدينية أو المذهبية أو القومية، مع الإقرار بضرورة احترام سائر الخصوصيات والاعتراف بالحقوق المترتبة من ذلك، وحينئذ، يمكننا القول إننا قد دخلنا فعلاً مرحلة إمكانية الحديث عن النظام الديمقراطي الذي يتجاوز مختلف العصبيات والولاءات الفرعية لصالح الولاء الوطني العام.
تعيش سورية اليوم مرحلةً انتقاليةً استثنائية بكلّ معنى الكلمة، وما يضفي على هذه المرحلة المزيد من التعقيدات أنها تأتي بعد 54 عاماً من الحكم الاستبدادي، الذي قضى على الحياة السياسية المُعارِضة في سورية، وحاول بشتى السبل سدّ الطريق أمام تشكّل البديل المُعارِض الناضج المؤثّر.
فبعد أن أسقطت هيئةُ تحرير الشام (والفصائلُ المتحالفة معها) نظامَ آل الأسد المستبدّ الفاسد المُفسِد، وهو إنجاز غير مسبوق ما كان له أن يتحقّق لولا شجاعة وتضحيات وصبر السوريين الذين قدّموا إلى مختلف شعوب العالم ودوله دروساً في الشجاعة والنبل لم تتناولها الأساطير بعد، ما كان لهذا النصر أن يتحقّق بهذه السهولة، وبمثل هذا الالتفاف الشعبي، والفرح الغامر، غير المعهودين... بعد هذا النصر، شكّل أحمد الشرع حكومةً مؤقّتةً، وبيّن أنها ستستمرّ حتى إلى الأول من شهر مارس/آذار المقبل. وقد أثارت هذه الخطوة انتقادات عديدة من مختلف قوى المعارضة السورية، وذلك من مواقع مختلفة. ولكن مع ذلك، إذا قارنّا بين إيجابيات وسلبيات تشكيل الحكومة المؤقتة بهذه السرعة، وجدنا أن الإيجابيات ربّما كانت أكثر. فترك الأمور للفراغ في بلد كسورية، خاصّة بعد سنوات طويلة من الحرب وعدم الاستقرار وتوقّف العجلة الاقتصادية، ولا سيّما أنه من المعروف عن السوريين أن توافقهم صعب، يأخذ وقتاً طويلاً. أمّا السلبيات فتتمثّل في عدم شعور مختلف المكوّنات المجتمعية والقوى والشخصيات السياسية السورية، بتوجّهاتها المختلفة، بأنها ممثّلة، أو بأنها قد حصلت على دور عادل في المرحلة المقبلة. هذا مع الأخذ في الحسبان اعتداد السوريين بالنفس، الذي يبلغ أحياناً حدّ نرجسية صعبة الترويض.

إعادة بناء النسيج المجتمعي السوري يتحقّق بمحاسبة عادلة لمرتكبي جرائمِ القتل بحقّ السوريين، ولمن أعطوا أوامرَ القتل

أمّا الحديث عن الخيار الديمقراطي الذي يكاد معظم السوريين يُجمِعون عليه فيمثّل الطريق الأمثل للوصول إلى نظام يضمن مستقبلاً أفضلَ لأجيالنا المقبلة. ولكنّه حديث لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع السوري وطبيعته. ولعلّه من الأنسب في هذا المجال استخدام تعبير الدمقطرة، أو التوجّه نحو الديمقراطية. ففي مناخات عدم وجود حركة سياسة فاعلة ومجتمع مدني ناضج، وغياب التربية الديمقراطية في المدارس والجامعات وغيرها من المؤسّسات الثقافية والتربوية، لا بدّ من اللجوء إلى آليات أخرى تنسجم مع طبيعة المجتمع السوري، منها على سبيل المثال الاستعانة بالمجتمع الأهلي الذي أضعفته سلطة آل الأسد، غير أنه ما زال مؤثّراً بهذه الصيغة أو تلك في أوساط شعبية محدّدة. يمكن الوصول إلى صيغة من التوافق حول المقاييس الوطنية المشتركة بينها وبين أنصار الحداثة ضمن أوساط سائر المكوّنات المجتمعية السورية.
هناك من يتحدّث اليوم عن عملية إعادة إعمار سورية، وربّما منذ الآن، هناك كثير من الصفقات التي تُعقَد هنا وهناك من أجل ذلك، ولكن إعادة البناء الحقيقية التي تحتاج إليها سورية، قبل أي أمر آخر، تتمثّل في إعادة ترميم وبناء النسيج المجتمعي السوري الوطني، وذلك يتحقّق باعتماد المحاسبة العادلة لمن ارتكبوا جرائمَ القتل بحقّ السوريين، أو أعطوا أوامرَ القتل. هذا إلى جانب تحقيق المصالحة الاجتماعية، والقطع مع عقلية الانتقام القطيعية التي غالباً من يكون ضحاياها أناساً أبرياء، يدانون لمُجرَّد أنهم ينتمون إلى هذه الطائفة أو تلك، إلى هذه القومية أو تلك.
تحتاج سورية التاريخ والحضارة والمستقبل جهود سائر أبنائها المخلصين، وهي قادرة في الوقت نفسه على أن تحتضن الجميع بصدر رحب، لتكون بالفعل للسوريين كلّهم، من دون أيّ استثناء.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا