السوريون بين إمّا .. أو..

16 نوفمبر 2014
+ الخط -

أدخلتنا الثورة، نحن السوريين، في متاهات عديدة. والعيب ليس في الثورة، بل فينا نحن الثوار؛ العيب ليس في الثقافة، وإنما في المثقفين؛ العيب ليس في الحب، كما غنت أم كلثوم، وإنما فيكم وبحبايبكم، أما الحب يا روحي عليه! 
لقد أنتجنا، خلال سبعين سنة من عمر استقلال بلادنا، ولا سيما في عهد البعث الميمون والتصحيح المجيد، ثقافةَ النظرة التقابلية للأشياء التي تتلخص بكلمتين: (إما.. أو..)؛ فإما أن تكون شيوعياً تقدمياً يسارياً، أو يعتبرك التقدميون رجعياً متخلفاً. إما أن تكون إسلامياً ملتزماً بدينك وعقيدتك، وتهب، من تَوِّكَ، لمبايعة أول أمير قادم من دولة أخرى تسنح لك مبايعتُه، وإلا فإن الإسلاميين يعتبرونك شيوعياً، ماسونياً، علمانياً، ديمقراطياً، كافراً. وهذه المرتبة الأخيرة (أعني تهمة الكفر) كانت في السابق تمر بسلام، وأكبر عقوبة لها هي التنديد والاستهزاء، وأما اليوم فأصبح الحكم فيها يتزامن مع تنفيذ الحكم، وهو الذبح. 
باختصار، إما أن تكون معنا، وإلا فأنت ضدنا. باختصار: (إما) الأسد (أو) نحرق البلد. 
خطر لي، وأنا في مجلس يضم تشكيلة متنوعة من السوريين الثائرين على النظام، أن أنتقد تصرفات داعش والنصرة وكتائب أخرى تسيطر على المناطق المحررة، فلم أعدم وجودَ مَنْ يعترض طريقي، ويسألني باستهجان:
- هه، يعني النظام السوري أحسن؟
واندفع ليعدد لي ما لا يحسب الحاسب من جرائم النظام السوري التي يشيب لهولها الولدان.
أظهرت، وقتها، قليلاً من العناد، وقلت له إنني أعرف من فظاعات النظام السوري أكثر مما يعرف حضرته، وأكثر مما يعرف "مالكٌ" من أنواع الخمور، وأضفت قائلاً إن موضوع القوى المتطرفة لا يجوز التغاضي عنه، فإذا بواحد ثانٍ من الحاضرين ينبري لي، ويقول:
- ما هذا الكلام يا أستاذ؟ تعني أن أميركا وحلفاءها أحسن؟
وقال ثالث، مؤكداً على كلام زميله:
- أي نعم، صحيح. فالتحالف الدولي الذي تقوده أميركا لم يأتِ لنصرة الشعب السوري، وإنما لقتله وتشريده وتدميره.
وضرب لي أمثلة عن مقرات أخلاها داعش، وأخلتها جبهة النصرة منذ زمن بعيد، ومع ذلك، ضربتها طائرات التحالف، وخلفت ضحايا بشرية، وأضراراً مادية تابعة للمدنيين العزل.
قلتُ لهم: هذا الكلام كله صحيح. وأنا لست مع أميركا، وأنتم تؤذون مشاعري حينما تضعونني في موقف المدافع عنها.
ثم امتلكتُ جرعة زائدة من الحماس، فاستخدمت عبارة معمر القذافي التي صَدَّقَهَا بسطاء أبرياء أنقياء كثيرون، أيَّامَئِذٍ: طز في أميركا! وأضفت: ولكن، ولنفرض أننا تخلصنا من النظام السوري، ومن حزب الله، ومن أميركا الامبريالية، ومن التحالف الدولي، ومن روسيا الاتحادية، ومن إيران الفارسية الفَقيهية، ومن تركيا الأردوغانية، ومن دول الخليج، والمليج، ومن المشرق والمغرب، هل يوجد بينكم أحدٌ يُخبرني ماذا سنفعل بكل هؤلاء المتطرفين الذين جاءوا من أقاصي الأرض، وأدانيها، ليستبدوا بنا وبنسائنا وأطفالنا؟
فجأةً، اقترب مني أحد الحضور، وهمس في أذني ناصحاً، بودٍّ كثير: أستاذ اسمعني، المعارضة الخارجية سيئة وحقيرة، وأصبحت يداها ملوثتين بالدم، لأنها دعت أميركا لقتل شعبنا الآمن.. فـ (إما) أن تبتعد عنها (أو) تصبح يداك ملوثتين بالدم!
قلت له: اسمع أنت! فـ (إما) أن يكون تلوث يدي المعارضة الخارجية بالدم حقيقياً، (أو) أن يكون مجازياً، والمؤكد أنه مجازي، وأما أيدي الإخوة المتقاتلين، اليوم، على الأراضي السورية، فمعظمهم تلوثت أيديهم بدماء السوريين، فعلياً، فالنظام السوري يقتل السوريين من مختلف الانتماءات القومية والدينية والمذهبية، وداعش يقتل السوريين والعراقيين، والكتائب المسلحة في المناطق المحررة تقتل جنود النظام، وتقتل المواطنين، ويقتل بعضها بعضاً في أوقات الفراغ! وكل واحد من هؤلاء يأتي بمشايخه ليزودوه بالفتاوى، ثم يقول للآخرين:
إما أن تكونوا معي، أو أذبحكم.
ويذبحهم فعلاً لا مجازاً. 
 


 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...