السودان .. ثنائية القمع والتطبيع
يمضي السودان في مساراتٍ لا تلتقي. الأول يقوده المحتجّون المصمّمون على إسقاط انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. تظاهراتهم المتتالية التي تأخذ تسمية المليونيات لم تتوقف. فشل اتفاق عبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك في إنهائها، حتى أن الأخير اضطرّ للاستقالة من منصبه، بعدما عجز عن تسويق اتفاق ما بعد الانقلاب، سواء لدى الشارع أو لدى قوى إعلان الحرية والتغيير التي أراد قائد الانقلاب إقصاءها من الحياة السياسية، أو في أقل تقدير إدخالها في بيت الطاعة. وهذه القوى، على الرغم من تبايناتها الكثيرة، كانت قادرةً على الاتحاد خلف موقف موحد بشأن الانقلاب حصراً، مستمدّة قوتها من الشارع لا العكس. تؤدّي لجان المقاومة وتجمّع المهنيين والنقابات دوراً جوهرياً في إبقاء الحراك المدني حيّاً، سواء من خلال المليونيات أو العصيان. ويدفع المحتجّون في سبيل ذلك كلفة باهظة، فكلما دام الحراك فترة أطول صعّد العسكر من القمع. ضحايا المليونيات بالمئات بين قتلى وجرحى، لكن مخطط الترهيب لا يزال بلا مفعول.
خبِر السودانيون لعقود معنى القمع وتداعياته في عهد عمر البشير. أزمات سياسية واقتصادية وعسكرية. ولا شيء تغير، بعدما سعى العسكر منذ الثورة إلى التفرّد بالحكم، بل إنهم يسيرون على نهج البشير. ويضاف إلى ذلك أنهم لا يأبهون بأي انتقادات أو ضغوط خارجية. لا مناشدات الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة تجد آذاناً صاغية. حتى أنهم خدعوا المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، ونفذوا انقلاب 25 أكتوبر فور تحليق طائرته مغادراً الخرطوم، لتترك هذه الواقعة أثرها عليه، وتكون من بين أسباب استقالته من منصبه الذي خلفه فيه ديفيد ساترفيلد. بالنسبة للعسكر هاهم في مأمن. كيف لا؟ وقد اختاروا مسارهم "الأكثر أمناً". من وجهة نظرهم، لجأوا إلى ورقة الجوكر من خلال الانغماس في التطبيع مع إسرائيل. حتى باتت واشنطن تستنجد بتل أبيب لإقناعها بمحاولة الضغط على البرهان وصحبه. ولذلك، من الصعب جداً عدم ربط الزيارة المتزامنة يوم الأربعاء الماضي لوفدين، أميركي وإسرائيلي، إلى الخرطوم، وإن كانت الأهداف ليست نفسها. فعلى الأقل، أعلنت الولايات المتحدة أن هدف الزيارة تكرار الدعوة إلى "إنهاء العنف واحترام حرية التعبير". كما أن قائمة لقاءات الوفد الأميركي لم تقتصر على العسكر، بل شملت تجمّع المهنيين وقوى الحرية والتغيير. أما الوفد الإسرائيلي، أمني الطابع، فلن يخبر أي مسؤول سوداني عن أسباب الزيارة الجديدة له. ستتكفل الصحافة الإسرائيلية في تقديم التفاصيل. لكن الأكيد أنها لن تحمل ضغطاً على العسكر، فهذا غير وارد بين الحلفاء، وهو ما يجعل من هذه الزيارات أكثر من مرحّب بها، حتى لو غلّفت بوصايا ونصائح شكلية كرمى لعيون واشنطن، ينتهي مفعولها بمجرّد مغادرة الوفدين ويستأنف القمع، من دون أن يكون هناك أي رادع.
كل المؤشرات تفيد بأن القادم أسوأ على صعيد رغبة العسكر في وأد الاحتجاجات، مهما تطلب الأمر، حتى لو مجزرة جديدة على غرار فض اعتصام الخرطوم في 2019، ثم اتباعها بتشكل لجنة تحقيق هدفها الفعلي دفن الحقيقة، لا جلاؤها ومحاسبة المتورّطين. ولعل المؤشّر الأخطر تأسيس قوة خاصة لمكافحة الإرهاب بذريعة مجابهة التهديدات المحتملة في السودان، وربط مجلس الدفاع الأعلى الذي اتخذ القرار بين إنشاء هذه القوة وحديثه عن "الفوضى جرّاء الخروج عن شرعية التظاهر السلمي واتباع منهج العنف". وهو الموّال نفسه الذي تعتمده الشرطة السودانية في بياناتها التي تبرّر فيها قتل المحتجين، بما في ذلك اتهامها المتظاهرين باستخدام "تكتيك أشبه بالعسكري"، ما يجعل من اتهام العسكر المحتجين بالإرهاب خطوةً حتميةً خلال الأيام المقبلة.