السودان: الاستقرار الهش
منذ الثورة السودانية، لا يبدو أن تحقيق الاستقرار قريب جداً في هذا البلد. كلما حاولت السلطات إغلاق ملفٍّ برز تحدٍّ جديد. يبدو هذا الأمر متوقعاً، إذ يغرق السودان في إرثٍ ثقيلٍ من الأزمات خلّفها عمر البشير. وإذا كانت الحكومة قد تمكّنت من تسوية جزء كبير من ملف الحركات المتمرّدة في دارفور وجنوب كردفان من خلال اتفاقيات السلام الموقعة أخيراً، إلا أن ذلك لا يبدو كافياً.
تبدو النزاعات القبلية مهدّداً رئيساً للاستقرار. ما يجري في ولاية كسلا حالياً يشكل النموذج الأحدث على تداخل الأزمات وتعقدها. ما بدأ بخلاف قبلي بين البني عامر والنوبة في مدينة بورتسودان انتقل سريعاً إلى مدينة كسلا، حيث تحول تعيين وال لها إلى نقطة نزاع تسببت في اشتباكات وسقوط قتلى.
يحمل الطرفان، المؤيدان والمعترضان، على الوالي الجديد الذي تمت إقالته قبل تسلمه مهامه، في جعبتهما مبرّراتٍ كثيرة لمواقفهما، لكن المشترك الأساسي هو حديث الإقصاء والتهميش. ولطالما أدّت قضايا التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان إلى توليد أزمات ونزاعات كانت السلطات في عهد البشير تعتمد معها أسلوب التجاهل حيناً، أو القمع والسحق حيناً آخر. وثبت عدم صوابية هذه المعالجات، بعد ما شهده السودان، على مدى عقود، من تمرّدات ونزاعات، وصولاً إلى انفصال جزء منه.
أما بعد إطاحة البشير، فكان واضحاً أن السلطة الانتقالية تريد، أقله راهناً، اتباع نهج مختلف، الأمر الذي جعلها تقارب ملفات التمرّد والحركات المسلحة والنزاعات القبلية من منظور أقل تشدّداً وأكثر انفتاحاً على إرضاء الأطراف المعترضة. ولا يفترض أنه يغيب عن بالها أنه في مرحلة التحول الديمقراطي، فإن من بين الأولويات الأساسية تفكيك الأزمات، وهو في العادة أمر يتم تدريجياً، ويتطلب كثيرا من الوقت والجهد والالتزام بإيجاد حلول عادلة.
عامل الوقت تحديداً لا يبدو في صالح أحد، خصوصاً بعد انقضاء العام الأول من عمر المرحلة الانتقالية الممتدة على 39 شهراً. كما أن استمرار التدهور الاقتصادي يشكل عامل ضغط إضافياً، خصوصاً أن السودانيين اليوم باتوا أكثر ميلاً إلى التعبير عن مواقفهم من خلال الشارع.
وفي السياق، يبدو لافتاً ما أظهره المؤشّر العربي (2019/ 2020)، الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قبل أيام بعدما نفّذه في 13 بلداً عربياً. حلّ السودان في المرتبة الثانية بعد تونس وقبل موريتانيا بـ6.8 نقاط، في ما يتعلق بتقييم مستوى الديمقراطية من خلال تقييم المواطنين لقدرتهم على انتقاد حكومات بلدانهم على مقياس من 1 إلى 10 درجات. ومن بين ما يجب التوقف عنده أيضاً إظهار النتائج تأييد أكثر من 80% من السودانيين الاحتجاجات الشعبية في البلاد. وتبدو هذه النسبة مفهومةً، بعدما تبين أن نسبة الذين شاركوا في تظاهرات خلال هذه الاحتجاجات قاربت 37%. وبالتالي يظهر بوضوح أن الموقف من أي قضية سياسية/ اجتماعية/ اقتصادية مستجدّة أو قديمة في السودان سيكون في الشارع أولاً، ولن يكون التعبير عنه مقتصراً على الفضاء الأزرق، وإنْ كان يعدّ مؤشّراً قوياً لاتجاهات الرأي العام، بعدما تبين أن السودانيين يميلون إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التفاعل مع قضية سياسية بنسبة 37% عدة مرات في اليوم أو يومياً، و28% يعبرون عن مواقفهم عدة مرات في الأسبوع أو مرة في الأسبوع، مقابل 13% أقل من مرة في الأسبوع، و21% لا يستخدمونه أبداً.