السلطوية الظافرة
باحث عراقي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"
ما أكتبه، هنا، ينطلق من رؤيتي بوصفي مثقفًا، ولا علاقة له بالمنطق الذي يتبنّاه السياسيون، الذي قد أفهمه، ولكنني لا أشكّل مواقفي وتفضيلاتي انطلاقًا منه.
لم أكن مع قرار تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية في العام 2011. لماذا؟ لأن هذه الرابطة السياسية (بغض النظر عن موقفنا منها وتقييمنا لفاعليّتها من عدمها) ليست رابطةً حقوقية، ولا رابطة شعوب، بل هي رابطة دول، أو أنظمة، في حال أننا نرادف بين الدولة والنظام.
وسورية، التي عُلّقت عضويتها، بسبب ما ارتكب نظامُها من جرائم إبّان ثورة الشعب السوري عليه في 2011، لا تختلف عن بلدانٍ عربية أخرى، عرفت أنظمةً قد لا تقل وحشية عن نظام الأسد، وجزء غير قليل من الأنظمة التي اتخذت قرار تعليق عضوية سورية ليس نظيف اليد من دماء شعبه، هذا فضلًا عن أن تاريخ الجامعة هو، بمعنى ما، تاريخ سلطويات دموية. هل أذكّر بصدّام حسين، ومعمّر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وعمر البشير، والحسن الثاني، وحسني مبارك؟ ولم تُعلِّق في يوم ما عضوية أي منهم في الجامعة، بل حتى حين غزا صدّام الكويت في العام 1990، لم تعلق عضوية العراق، وكان صدّام قد نفض يديه للتوّ من أكبر مذبحة ارتُكبت بحق مواطنيه من العراقيين الكرد: الأنفال.
الحالة الوحيدة التي عُلقت فيها عضوية دولة عربية هي حالة مصر في 1979، حين وقّع أنور السادات معاهدة سلام مع إسرائيل. ولم يكن الأمر حقوقيًا حينئذ، بل خيانة لموقف مبدئي تتبنّاه الدول العربية. وحتى في هذه الحالة، لم يكن الأمر يخلو من صراع قوى بين بلدان الجامعة، فالعراق الذي قاد حملة مقاطعة مصر هو الذي أعادها إلى الجامعة العربية، سنواتٍ قليلة بعد توقيعها المعاهدة، وأعاد مقرّ الجامعة إلى القاهرة، غير عابئ بأنه بات على مقربة من أول سفارة إسرائيلية في عاصمة عربية. ولم يعد أحد إلى مثل هذه المقاطعة، وقد تكاثرت "خيانة الموقف المبدئي السالف"، الذي يبدو أنه خضع لإعادة تصور.
تاريخ جامعة الدول العربية، هو، بمعنى ما، تاريخ سلطويات دموية
وكذلك الأمر في حالة تعليق عضوية سورية في 2011. لم يكن الأمر يخلو من صراع قوى داخل الجامعة. ولذلك، لا أجدني متفقًا مع إمكانية المحاججة بأن هذا القرار إنما يشكل منعطفًا وتحولًا في تاريخ الجامعة العربية وفي منطقها ورؤيتها، بإدخال البعد الحقوقي فيها، انسجامًا مع أجواء الثورات العربية لعام 2011 وتزايد الفاعلية الحقوقية في البلدان العربية، فضلًا عن التحوّلات العالمية الكبيرة، فالتحوّل يقتضي نوعًا من التراكم، في حين كان هذا القرار (إذا أردنا أن نفهمه بوصفه تحولًا حقوقيًا) بيضةَ الديك.
ما أريد أن أخلص إليه أن قرار تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية لم يكن ينسجم مع المنطق الذي قامت عليه هذه المنظمة وتاريخها.
ومع ذلك كله، أجد قرار إعادة سورية إلى الجامعة أسوأ من قرار تعليق عضويتها، لا فقط لأنه ينقُض بالكامل أي ملمح حقوقي في القرار السابق، ولا فقط لأنه يمثل استمرارًا وانسجامًا مع منطق "جامعة السلطويات"، بل لأنه يمثل "اعترافًا" بالنهج السلطوي وترويجًا له: أنه لن يعترف بك أحد إلا حين تبطش، وتقتل، وتهجّر، وتنسف بلدك، وتحوّله إلى معتقل كبير. لن يصفّق لك أحد إلا حين تكون يداك ملطختين بالدماء، وتكون قد وضعت مسدّسك للتوّ في غمده، بعد أن قتلت، وقتلت، وقتلت (ألن يكون هذا مشهد الأسد، حين يلقي كلمة سورية، في أقرب قمة عربية، ويصفق له الزعماء العرب؟ سيصفقّون على ماذا، إذن، إن لم يكن على طريق الدم الذي أعاد الأسد إلى جامعة الدول العربية؟).
ولا بأس، فثمة "نخب" عربية ستروّج لذلك، باسم الوحدة الترابية، ووحدة الدولة، ومقاومة إسرائيل. ولكن، ألا يمكن أن يكون ذلك جزءًا من منطق "واقع الحال de facto"؟: أن الثورة فشلت في تغيير النظام، والجميع مضطرّ إلى التعامل مع هذا النظام نفسه، وقد كان قرار عودة سورية مرفقًا (ولا أقول مشروطًا) بما يبدو أنه "برنامج" لمعالجة الأزمة السورية. قد يكون ذلك ممكنًا، ولكن "واقع الحال" هذا يأتي في إهاب "اعتراف" بجرائم المنتصر، إن لم أقل في إهاب رؤية بأن النظام السياسي العربي ينبغي أن يكون كذلك.
ما الحل إذن؟ أظن أن هذا السؤال سياسي، يفكّر بالإجراءات والترتيبات وخطوات العمل، وأنا لا أبني مواقفي وتفضيلاتي استنادًا إلى المنطق الذي يتبنّاه السياسيون.
باحث عراقي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"