السلطويات العربية والميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء
اعتمد البرلمان الأوروبي في العاشر من إبريل/ نيسان الجاري ميثاق الهجرة الأوروبي، والذي يمهد لإدخال تغييرات نوعية في السياسات والتشريعات الأوروبية في استقبال (وتنظيم) تدفّقات طالبي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين، والمقرّر اعتمادها في الدول الأعضاء تمهيدا لتبنّيها بشكل شامل عام 2026. ويبدو أن اعتماد الميثاق في هذا التوقيت استهدف مواجهة النفوذ المتصاعد لليمين المتطرّف وتحييده، قبل أسابيع من إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في السادس من يونيو/ حزيران المقبل، والتي تنافس فيها بقوّة أحزاب اليمين الشعبوية، حسب نتائج آخر استطلاعات للرأي. وقد صوّتت لصالحه في البرلمان الأوروبي أحزاب اليمين والوسط، الليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين، وعارضته أحزاب اليسار الراديكالي والخضر وبعض الاشتراكيين وأحزاب اليمين المتطرّف التي وجدت أنه غير كافٍ للتصدّي للمهاجرين.
سيزيد هذا الميثاق، إذا ما جرى تبنّي سياساته بالكامل بشكل رسمي، تكثيف المخاطر والمعاناة التي تواجهها تدفقات الهجرة غير النظامية واللاجئون عبر المتوسّط. يضم الميثاق تدابير تهدف إلى رفع كفاءة (وقدرات) أجهزة الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء في غربلة ملفّات طالبي اللجوء وفحصها ومتابعتها، لكن الأجندة الأهم، والأكثر إثارة للجدل، ما سيمهّد له الميثاق من إيجاد فضاءات خلفية خارج الاتحاد الأوروبي لصد تدفّقات الأفراد، واحتجاز غير المرغوب في استقبالهم وتغليظ الرقابة والسيطرة على الحدود الأوروبية، وتنقلات المهاجرين غير النظاميين، وطالبي اللجوء. يقترح الميثاق أيضاً تسريع إجراءات فحص طلبات طالبي اللجوء على الحدود الأوروبية خلال اعتقالهم، وتقرير ما إذا كان سيجري استقبالهم أو إعادتهم إلى بلدانهم، أو دول ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي. ويمثل تسريع هذه الإجراءات إخلالاً جسيماً بقدرة طالبي اللجوء على عرض قضاياهم بشكل منصف وعادل، وحصولهم على الدعم القانوني اللازم. وكانت المملكة المتحدة قد تبنت سياسة مشابهة لتسريع إجراءات البتّ في طلبات اللجوء، إلا أن المحكمة العليا في إنكلترا خلصت في يونيو/ حزيران 2015 إلى عدم قانونية هذه السياسة.
لن يوقف الميثاق حركة الأفراد، بل سيجعلهم أكثر عرضة للمخاطرة والموت للوصول إلى الأراضي الأوروبية. وعلى الرغم من جهود أوروبا للسيطرة على حدودها الجنوبية، فقد تمكّن نحو 186 ألف مهاجر ولاجئ من عبور رحلة الموت عبر المتوسط عام 2023. وقد أثارت مسوّدة هذا الميثاق انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية منذ طرح فكرته وتداولها منذ عام 2020. وعلى الرغم من أن الميثاق قد ضمّ سياساتٍ من شأنها تكثيف الضغوط والمخاطر على المهاجرين واللاجئين لتحجيم وصولهم إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن بعض رموز اليمين الأوروبي، وفي مقدّمتهم رؤساء المجر وبولندا، رفضوه وهدّدوا بأن دولهم لن تنضم إليه، اعتراضاً على ما ينصّ عليه الميثاق من إجراء إعادة التوطين الإلزامية داخل الاتحاد الأوروبي لتخفيف عبء استقبال طالبي اللجوء، في حالات الأزمات والطوارئ، عن الدول الأوروبية الواقعة على الحدود، خاصة إيطاليا وإسبانيا واليونان، وإمكانية إعادة توطين الأفراد من هذه الدول في دول أوروبية أخرى لا تواجه ضغطاً وتدفّقات بشرية مماثلة.
بعد 29 عاماَ من تبنّي إعلان برشلونة، تغيّرت السياسة والتوجهات والمشكلات جذرياً
ستؤدّي التدابير التي يؤسس لها هذا الميثاق إلى زيادة احتياج الاتحاد الأوروبي لعلاقات استراتيجية ووثيقة مع الحكومات العربية في جنوب المتوسّط، والتي ستساهم في تحقيق المكوّن الأهم في هذا الميثاق، وهو حراسة الحدود الجنوبية لأوروبا، وصد طالبي اللجوء قبل الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، واحتجازهم في معسكرات لفحص طلباتهم وتقرير من سيدخل الاتحاد، ومن سيستمرّ احتجازه أو يتم إرجاعه إلى دولته الأصلية. يُكسب هذا الملف دول جنوب المتوسط قوة ضغط مضادّة على دول الاتحاد الأوروبي ومؤسّساتها. وقد رأينا بالفعل في السنوات الماضية نجاح تركيا والمغرب في أن تجعل تدفق المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء مصدر ضغط ومساومة سياسية مع الاتحاد الأوروبي. وبالتزامن مع طرح الميثاق للمناقشة والتصويت داخل البرلمان الأوروبي، وقع الاتحاد الأوروبي أخيراً خطّة الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع مصر، والتي يشكل فيها مكوّن التعاون طويل المدى في مكافحة الهجرة غير النظامية عنصراً جوهرياً. وكان الاتحاد الأوروبي قد وقّع مذكّرات تفاهم مع الحكومتين التونسية والموريتانية، وقريبا مع الحكومة اللبنانية، لتهيئة بلدانها لكي تكون فضاء خلفياً لتنظيم حركة طالبي اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين لصالح الدول الأوروبية. لكن الاتفاق الأوروبي مع مصر هو الأضخم مالياً لرغبة الاتحاد الأوروبي بالأساس في تجنّب التداعيات الأمنية والسياسية لانهيار الاقتصاد المصري، والاعتماد على الدور المصري في احتواء آثار الحرب على غزّة، واستمرار الصراع الأهلي في السودان.
لقد أطلق الاتحاد الأوروبي مسار برشلونة للشراكة الأوروبية المتوسّطية عام 1995 في حقبة سياسية شابتها تطلعات كبيرة بأن تحفز هذه الشراكة تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والتنمية الاقتصادية والتواصل بين الشعوب في الفضاء الأوروبي المتوسّطي. الآن وبعد 29 عاماَ من تبنّي إعلان برشلونة، تغيّرت السياسة والتوجهات والمشكلات جذرياً في أوروبا والمنطقة العربية، وأصبح الطموح الأكبر للاتحاد الأوروبي، والذي يمثل الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء التعبير الأحدث عنه، هو تشييد جدار حديدي عازل ضد شعوب جنوب المتوسّط، والتنصّل السياسي من جذور (ومسبّبات) تفشي البيئة الطاردة للشعوب في الجنوب.