السلطة اللبنانية وفن تحريف الحقائق
تصعب آلية تحديد، أو رسم، أو وصف مجال النشاطية السياسية التي تمارسها السلطة في لبنان، والتي تتحرّك في هامشها. من غير المجدي البحث في الأمر، ليس لأن المحاولات خاطئة بالضرورة، وليس لافتقارنا لغة تفي المطلوب، ولا لافتقاد البشرية ميدانا معرفيا يمكن أن يصل إلى أهدافٍ واضحة ونهائية في هذا الشأن. بل لأن مبادئ الشفافية والوضوح في العمل السياسي، وفي مقاربة الموضوعات، وفي المستويات والشروط الكلاسيكية الواضحة لأي نظام سياسي، تكاد تختفي في لبنان، إلى درجة أن هذا الكم من اللزاجة يُفقد الشعب أي إمكانيةٍ تسمح بالتحقق من صحة هذه النتيجة أو تلك.
هذا الهامش السياسي الكبير والمجال الواسع للنشاطية، جرّاء كثرة القضايا وتعدّد مستوياتها وتعقيداتها، يُكسب السلطة اللبنانية قدرةً غرائبيةً عجائبيةً للتنصّل من أي نوع من المسؤولية التاريخية أمام الناس، وأمام مستقبل أولادهم، فمعيار المسؤولية لا وجود له في مجال الفعل السياسي السلطوي في لبنان. وهو ما يسري، خصوصًا في هذه المرحلة الحرجة من عمر الدولة، ومن عمر نظامها، على ملف ترسيم الحدود البحرية.
أخفت السلطة معظم بنود ملف الترسيم التي وافقت الأميركي عليها، وعتّمت على مجمل الاتفاق، بغرض استحالة ملاحقتها ومحاسبتها على أيّ من تفاصيله. حتى إنها تكتّمت على البنود التي طالبت بإجراء تعديلات عليها، قبل أن يرفضها العدو الإسرائيلي. بل يمكن القول إن لغة المواربة التي تنتهجها السلطة اللبنانية سيدة الموقف، بحيث يصعب وضع اليد على أي من التفاصيل التي يمكن تتبعها خلال سير المفاوضات في الحاضر، ولا في المستقبل القريب، قبل أن يدخل الاتفاق حيّز التنفيذ.
تشارك السلطة اللبنانية العدو في حقل قانا، مع ما يطرحه ذلك من أزمة متعلقة بكيفية دفع المتّرتبات المالية الملزمة للخصم مقابل حصته؟
لقد هزمت السلطة اللبنانيين قبل أن يهزمهم العدو. هزمتهم وفرّطت بحقهم حين تخلى الرؤساء الثلاثة، طوعيًا، وبشكل نهائي، ولغايات خاصة، عن جزء من حدود الدولة المتمثّل بالخط 29 الذي كان وفد الجيش اللبناني متمسّكًا به خلال عملية التفاوض غير المباشرة، فقد أظهرت دراسات علمية وتقنية هذا الحق، سواء تقرير المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO، أو دراسة العقيد الركن البحري مازن بصبوص انطلاقًا من الدراسة البريطانية، أو دراسة مصلحة الهيدروغرافيا التي أنشأها الجيش اللبناني، والتي حصلت على بيانات أكثر دقة. كل هذه تفيد بأن الخط 29 من حق الدولة اللبنانية. لذلك أعدّ الوفد اللبناني (يضم الخبير الدولي في ترسيم الحدود نجيب مسيحي) في نهاية عام 2019، ملفًا تقنيًا محكمًا طالب من خلاله بتعديل الخط 23 الذي لا يستند إلى أي دراسة علمية. ولا يُكسب الخط 29 المتنازل عنه لبنان حقل "قانا" بالكامل فحسب، بل معظم حقل "كاريش" معه. وهنا نتكلم عن 1.3 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ناهيك عن أكثر من 1430 كيلومتراً مربعاً من المساحة البحرية. لذلك، يجب القول إن الرؤساء الثلاثة طعنوا ضباط الجيش اللبناني من الخلف، وطعنوا الشعب اللبناني من كل الجهات، بموافقة حزب الله، راعي النظام اللبناني وحاميه، على الرغم من كل محاولاته التنصل التي لم تعد تنطلي على أحد.
لا تنحصر المشكلة في هذا التفريط فحسب، علمًا أنه يستوجب محاكمة كل من ساهم به وكل من تخلى عن أي شبر للعدو أو لأي جهة خارجية، بحسب الدستور والقوانين اللبنانية. بل المشكلة الأساس أن سياسة تحريف وتغيير الحقائق التي تعتمدها السلطة اللبنانية تاريخيًا تأبى إلا أن توهم الناس، وأن تصوّر الاتفاق انتصارا، على غرار انتصارات محور الممانعة. بل تستفيض في الكلام البلاغي لناحية التعديلات المطلوبة، وتحاول تقديمها للبنانيين ثباتا في الموقف، على الرغم من أنها لا تغني ولا تسد من جوع. خصوصًا أن إلياس أبو صعب، نائب رئيس المجلس النيابي، هو من أكّد أنها "غير جوهرية"، ولا تغير من طبيعة الاتفاق في شيء، فكيف يوهم الناس من تخلى عن الخط 29، أنه ينتصر بالتصلب حول تعديل بالزائد أم بالناقص في ما يتعلق بالخط 23؟
كل مسرحية المزايدة في عدم التطبيع تهدف فقط إلى ذرّ الرماد في العيون
من ناحية ثانية، يضع الاتفاق الذي ينطلق من الخط 23 السلطة اللبنانية أمام مشكلة جديدة. فبالإضافة إلى تنازلها عن كامل حقل كاريش، ها هي السلطة اللبنانية تشارك العدو في حقل قانا، مع ما يطرحه ذلك من أزمة متعلقة بكيفية دفع المتّرتبات المالية الملزمة للخصم مقابل حصته؟ هنا أيضًا تحاول السلطة التلاعب بالحقائق، والمزايدة في رمي الشعارات المقاومة. فبمعزل عن طريقة الدفع، بشكل مباشر، أم عبر شركة توتال، تكون السلطة اللبنانية قد طبّعت مع العدو، واعترفت به، وتكون كل مسرحية المزايدة في عدم التطبيع تهدف فقط إلى ذرّ الرماد في العيون ولترجمتها في الاشتباك الداخلي المستمر.
عوّدتنا هذه السلطة على قدرتها الفائقة على التحريف، على التذاكي، وعلى تشتيت انتباه الداخل اللبناني في القضايا كافة. وها هي تمعن اليوم في تشتيت الانتباه، وتحريف كل مضامين الخيانة المثبتة وفقًا لمضامين علم المساحة والنتائج السياسية المترتبة عليه، من خلال المسّ بالسيادة أو من خلال الاعتراف بالعدو والتطبيع معه، فالتطبيع والمسّ بالسيادة لا يرتبطان بالمفردات المستخدمة، بل بالمضامين الواقعية لأي اتفاق، بمعزلٍ عن تبرير التخلي، وبمعزل عن طريقة إبرام الاتفاق مع الاحتلال. مجرّد ترسيم الحدود البحرية اعتراف تلقائي بحدود العدو، وفق الشرعية الدولية، ووفق الشروط الواقعية، وهو أيضًا اعترافٌ بحق العدو بالاستفادة من هذه المياه ومن مخزونها، بالإضافة إلى السيادة فوقها، وهو إنهاء ديباجة عدم الاعتراف باتفاقية سايكس بيكو وكل ما نتج عنها، وذلك على خلاف كل خطابات المزايدة الأيديولوجية التاريخية، سواء اللبنانية الداخلية أم الإيرانية، عن مركزية القضية الفلسطينية، وعن تصنيف الآخرين، وتخوينهم، واتهامهم، انطلاقًا منها.