السلطة التي لا تفرزها الانتخابات في العراق
يصعب تذكُّر عدد المرات التي علّق فيها مقتدى الصدر وتياره وجودهما في "العملية السياسية" وفق التسمية التي يفضلها حاصرو ويلات العراق بالأميركيين وبغزو 2003، لتبرئة حكم صدّام حسين وإيران من كل مصيبة ماضية وحاضرة. ومثل عدد مرّات اعتكاف مقتدى، هو عدد مرات عودته. خروج التيار الصدري اليوم من كل شأن عام (برلمان، مفاوضات، ترشيح رئيس حكومة، لقاءات سياسية، تحالفات...) ربما يكون مختلفاً وربما يكون مكرراً، فإحدى نقاط قوة مقتدى الصدر أنه يصعب توقع قراراته، من أكثرها طائفية ورجعية وتخلفاً، إلى أشدها انسجاماً مع فكرة الديمقراطية: الغالبية إن أفرزتها انتخابات حقيقية أو معقولة في درجة نزاهتها، يجب أن تحكم، والأقلية الخاسرة يجب أن تبقى خارج السلطة لتعارض وتحاسب وتنتظر الفرصة لتصبح هي الأكثرية، وهكذا دواليك. مقتدى الصدر، بإصراره منذ انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على أحقية حكم الغالبية، وبرفضه مواصلة ديكتاتورية الإجماع المسماة ديمقراطية توافقية داخل الطائفة الشيعية، يفتح ثغرة في جدار سميك تحرسه أياد إيرانية مثابرة: الحكومات السبع منذ 2004 تألفت على قاعدة تمثيل كل كتلة شيعية موجودة في البرلمان بدل قاعدة الغالبية التي تحكم والأقلية التي تعارض. وعدم مشاركة كتلة تعرّف عن نفسها بأنها شيعية في الحكومة أمر محظور. حتى تمردات مقتدى الصدر وخروجه عن الإجماع في محطّات عديدة، كان مصيرها جولات اعتكاف، أو قرارات من نوع تفضيله إكمال دروسه الدينية على تولّي الصدارة في المشهد السياسي، أو انزوائه في لبنان ليكون قرب حسن نصر الله الذي يُقال إنه كان مثالاً أعلى للصدر الشاب. وبعد كل فصل مقاطعة، كان يعود إلى "العملية السياسية" غالباً من دون تغيير يُذكر للظروف التي غاب بسببها.
ما يقوم الصدر به منذ انتخابات الخريف الماضي في تمسّكه بكسر ديكتاتورية الحكومة الائتلافية، ليس مناورة أخرى، ولا يعبر كذلك عن صحوة ديمقراطية غير معروفة حقاً عن الرجل وعن تياره وعن تاريخه وعن مليشياته. أغلب الظن أنه اقتنع، بعد كل هذه السنوات، أن هناك مجالاً اليوم للخروج من الوصاية الإيرانية بدليل ما كشفته انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. الصدر سليل حساسية تاريخية عائلية عربية مصيرها مرتبط بإبقاء قرار العراقيين الشيعة في النجف لا في قم، بالتالي في بغداد لا في طهران. والمعركة الحالية على الحكومة، على أهميتها، قد تكون تمريناً على ما قد يحصل عندما تدق ساعة خلافة علي السيستاني. حاول الصدر مراراً في السابق التصويب على وصاية طهران المرفوضة على الشيعة العراقيين، بأسماء مستعارة، من صنف "دول قريبة" و"جيران". ظنّ أن غياب قاسم سليماني عن المشهد قد يقلّص دعم إيران لأتباعها في بغداد. لكنه أيضاً حارب الانتفاضة الشعبية التي عرفتها المناطق ذات الغالبية الشيعية في العاصمة والوسط والجنوب، أواخر 2019، بكل ما أوتي من أدوات قتال، وقتلى كُثر يتحمّل التيار الصدري مسؤولية دمائهم. برأيه، تياره هو الوحيد القادر على إعادة قرار شيعة العراق إلى داخل الحدود. سبق أن تحالف مع الشيوعيين والتيار المدني في 2018 وانفضّوا عنه. فائزون كثر باسم انتفاضة تشرين رفضوا تجديد الثقة به بعد انتخابات 2021 وأغلب الظن أن شكوكهم مبررة. اليوم كل ذلك أصبح خارج الموضوع: استقال نواب التيار الـ73. سحب ابن عم مقتدى، جعفر الصدر، ترشحه لرئاسة الوزراء. المرشحون الخاسرون عن أحزاب تحالف "الإطار التنسيقي" ومليشياته، سيخلفون النواب الصدريين المستقيلين، أي أن العائلة الإيرانية الكبيرة ستكبر في البرلمان العراقي.
غداً يعود الصدريون إلى الشارع، الملعب المفضل لديهم. جمهور "الإطار التنسيقي" لن يواجههم على الأرجح. الخوف أنّ أقصى ما يمكن أن ينتجه نزولهم إلى الطرقات هو تحديد موعد لانتخاباتٍ مبكّرة جديدة، يفوز فيها التيار الصدري بأغلبية، فيعلو الشعار نفسه: في الزمن الإيراني، الإرادة الشعبية شيء، وهوية الحاكم شيء آخر. في الزمن الإيراني، السلطة لا تفرزها نتائج الانتخابات.