السفر البعيد في زمن الوباء
السفر في الأصل ليس من الأنشطة المحبّبة لديّ. أتجنّبه منذ بضع سنوات. ولا أرضخ لضرورته إلا لأسبابٍ وجيهة. هذه المرة، كان عليّ ان أتخذ القرار. أسافر، أبتعد، أغادر لبنان، أتغرّب .. وألاحظ فوق ذلك أنني فقدت عادة السفر. سنة بأكملها لم أغادر بيروت. بل قليلاً ما خرجتُ من البيت خلال أشهر الوباء الأخيرة. فصرتُ أرتجف الآن من ركوب الطائرة. الوباء زاد من هواجسي الأصلية. من غامر بالانتقال من بلد إلى آخر، يرسل إليّ صور المطار الذي مرّ به. وكأنه مهجور. لا حسّ ولا صوت، سوى نقاط التفتيش.
قبل أن أتشجع وأشتري بطاقة السفر الجوي، أحلم أياماً بأنني غادرتُ بيروت من طريق البحر. وأتخيل المرافئ والمحيط الأطلسي، فأزهو. والجميع يثنيني عن الفكرة، بأنني سأمضي أسبوعين على الأقل بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. ومعهما أسبوع آخر، أو ربما أكثر، للتوقف عند تلك المرافئ. هواء البحر النقي سيبدّد على الأقل مخاطر الفيروس. انفجار مرفأ بيروت يلغي الفكرة نهائياً. وأعقد العزم على الطائرة.
والوباء يضاعف هواجسي، فتتحوّل حياتي بعيد شراء بطاقة السفر إلى كوابيس، تنضم إلى ما بات جحيماً لبنانياً موصوفاً. يومياً تحتل عقلي فكرة خطيرة، وأتوسوس منها طوال الليل والنهار. لا أستطيع أن أتصوّر لحظة أنني سأمرّ بسلام قبل بلوغ مقصدي. كمية غير طبيعية من الكوابيس: وجهي الذي لن يتعرّف إليه رجل الأمن، لأنني تركتُ الشيب يغزو شعري، بينما شعري مصبوغٌ بالحنّة في صورة جواز سفري. أتخيل المشهد: رجل الأمن ينظر إلى وجهي ثم إلى صورتي في جواز السفر، فيصرخ: "هذه ليست انتِ!". فتأتي أفكار الحيلة من نوع قبعة على رأسي مع نظّارات شمس، أو باروكة، أو مبالغة في التأنق والتبرّج، بصفتهما هيبة لازمة... ولكن هذه الحِيَل جميعها تسقط أمام احتمال أن أنكشف، وأصبح مشبوهة مرتين. خصوصاً في مطار بيروت. حيث أتخيّل انني لحظتها سأتعرّض لابتزاز، لن أنجو منه لأنني لا أتمتّع بـ"غطاء". وهذا أكبر مخاوفي يحتل حيزاً واسعاً من أيامي. لكنه لا يلغِي وساوس أخرى، مثل فائض وزن الحقائب، أو ضياعها. أو إجراء مفاجئ ليس في الحسبان، تتّخذه تلك المطارات مع الموجة الثانية للوباء. أو عدم اعترافها بنتيجة فحص "البي سي آر". وهذه النتيجة، على كل حال، لم تسألني عنها أيٌّ من نقاط مطارات بيروت، أو تورنتو، مروراً بإسطنبول.
قال السائق: من يطلب سيارة هذه الأيام فئة واحدة. الذاهبون مثلك إلى المطار، المغادرون لبنان. هم الغالبية العظمى من زبائننا الآن
سائق التاكسي الذي يقلّني فجراً إلى المطار، أسأله عن سبب امتناع شركته عن زيادة تعريفتها. ما زالت توصيلة المطار كما كانت منذ سنة، أي خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية. "لا.. لا.." يجيبني. أضفنا منذ يومين خمسة آلاف ليرة إلى التسعيرة. صارت ثلاثين ألفاً. يقولها بشيء من الخفَر، كأن الخمسة آلاف ليرة مبلغٌ يعتدّ به. "لا زبائن يا مدام"، يجيبني عندما أستغرب من تواضع الزيادة. حسناً، أجيبه، من هم زبائنكم الآن؟ أسأله. وجوابه: "من يطلب سيارة هذه الأيام فئة واحدة. الذاهبون مثلك إلى المطار، المغادرون لبنان. هم الغالبية العظمى من زبائننا الآن. وأقلية قليلة من القادمين إلى بيروت. وغالبية هؤلاء يمكثون يومين أو ثلاثة، لزيارة أهلهم، ثم يطلبون التاكسي إلى المطار". ماذا عن الزبائن القدماء؟ أسأله. أولئك الذين يتنقلون داخل العاصمة وخارجها؟ "اختفوا تماماً"، يجيب.
في قاعة مطار رفيق الحريري، ألاحظ ما نسي سائق التاكسي أن يشير إليه. غالبية هؤلاء المغادرين من الشباب. بلى. هناك عائلات أيضاً، ولكنها عائلاتٌ شابّة، تحمل أطفالاً صغاراً. واجهة المطار تلمع بالإضاءة وإغراءات الشراء. الواجهة فقط. لأن تجربة الخلفية، أي الحمامات، تفضح تصنّع "طبيعية" الحالة التي أريد للأضواء أن تبثها، عبر متاجرها، فالحمامات متّسخة، أبوابها مخلّعة، لا قبضات فيها ولا أقفال. لا تعرف مصْبنتها وحمامها شيئاً اسمه المناديل الورقية. يدخل إلى حمّام النساء رجل، ليدخن سيجارته، ويخرج منها بملامح التعجّب. ملامح مفتعلة، واضحٌ هذا. يُراد منها التبرؤ من تهمة التدخين، والتحجّج بالخطأ، مجرّد خطأ أنه اعتقد نفسه في حمّام الرجال.
الحركة المسلية الوحيدة، التي ستتكرّر في المطارات الأخرى، طلب موظف نقاط التفتيش من المسافر أن ينزع كمّامته، بقصد التعرّف إلى كامل ملامحه!
طبعاً الجميع يضعون كمّامة على وجوههم. الحركة المسلية الوحيدة، التي ستتكرّر في المطارات الأخرى، هي طلب موظف نقاط التفتيش من المسافر أن ينزع كمّامته، بقصد التعرّف إلى كامل ملامحه. في هذه اللحظة فقط، تستطيع أن تتنفّس من دون صعوبة ولا جهد ولا تعرّق.
مطار بيروت للرحيل. ومطار إسطنبول للانتظار. الأول نقطة في بحر الثاني. أربع ساعات متواصلة. أجول فيه طولاً وعرضاً. أمشي لكي لا أتعب. الجميع يضع الكمّامة. لا يُنزع هذا الأخير، كما في بيروت، إلا للتحقّق من هوية حامل جواز السفر. أتقصّد شراء أشياء من أجل أن أتعاطى مع أتراك، فأجدهم مثل كل أهل الشرق. لا يعرفون معنى التباعد الإجتماعي. لا يبتعدون، كما يفترض بهم أن يفعلوا.
في قاعات التدخين، التباعد الاجتماعي أقل شأناً. ثمّة أفرادٌ يدخّنون وحدهم. ولكن أيضاً ثمّة مجموعات من ثلاثة أو أربعة يقتربون من بعضهم، كما لو أنهم يقتنصون فرصة مخالفة الإجراءات. يكفي لهم أنهم مضطرّون إلى خلع الكمامة، لكي يستحكموا بالسيجارة، فيعودوا بذلك إلى أجواء ما قبل الوباء. ودودون، دافئون، يضحكون، يثرثرون بشغف، ينظرون إلى بعضهم بفضول، كأنهم يكتشفون. إنهم هنا في فسحة الحرية الوحيدة المتاحة لهم من دون الكمّامة.
الوباء وإجراءاته، خصوصاً الكمّامة، ضرب العلاقات السريعة التي تنشأ بين البشر
بعد السيجارة، عودة إلى الباحات الشاسعة، حيث الحشد البشري والكمّامة. تصوّر هذا المشهد: قاعات فسيحة، وأعداد من الناس بالمئات، من كل القارات، موزّعون فردياً، أو بحسب "العائلات" النووية، أي الأم والأب والأطفال. يمشون، أو يجلسون، أو يأكلون، من دون النظر إلى غيرهم. مغلقون على ذواتهم، أو أولادهم. قمة المشهد: وسط هذه القاعة، حوالى ثلاثين رجلاً صينياً، يرتدون بذلاتٍ بيضاء، من الرأس وحتى القدمين، مثل التي ألِفناها بعد الوباء. يفترشون الأرض وسط القاعة. يتحلّقون على بعضهم بشكل دائري، أي مغلق. بحركةٍ واحدة، يخرجون طعامهم، يأكلون، يتسامرون، ثم ينتهون. ومثل رجل واحد يرمون بقاياهم ويعودون إلى حلقتهم. كأن لا شيء حولهم سوى الهواء.
أحاول أن أقارن بين باحات الترانزيت التي ارتدتها قبل الوباء مع تلك التي أراها الآن، فأدرك أن الوباء وإجراءاته، خصوصاً الكمّامة، ضرب العلاقات السريعة التي تنشأ في تلك الباحات. كانت علاقات قائمة على نظرة، على ابتسامة، على إعجاب بامرأة أو رجل، من فرط أناقتهما، لبسهما، مساحيقهما، أو في تقصّدهما الإغراء، أو مجرد رغبتهما بلفت الإنتباه. وينجحان إلى حدّ بعيد، بدليل الأنظار اللافتة إليهما. هذه الوضعية التي تشكل ملح قاعات الترانزيت ومنبع غرائبها لم تَعُد موجودة. غالبية المنتظرين، هندامهم من وحي الوباء. عمليّ ومريح. لا خفّة، ولا غواية، ولا دهشة، ولا نزوات جمالية. وإذا وجد هذا النوع، وعلى قلّته، فلا يثير أي نوعٍ من الاهتمام وسط جمهرة واضعي الكمّامة. الوباء يغير السلوك ويدخل العين إلى أعماقها، فلا يرى صاحبها إلا دواخل نفسه. لا وجود للآخر. إنه شبح، ومخيف. فتحضر أشهر المأثورات، للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الجحيم هم الآخرون".
لا يجد الغربيون أي صعوبة بالتباعد، يحترمون التعليمات، يستبقونها أحياناً، كأنها أصبحت من عادياتهم
اُنظر مثلاً إلى تنظيم التباعد الإجتماعي، عبر الكراسي الموزّعة في قاعة الإنتظار الواسعة. بين كل واحدة والأخرى، ملصقات تمنع الجلوس عليها، وتنبيه فيه من التجهّم ما يكرِّس هذا النفور من الآخر. فعلى ظهر كل كرسي كلمة هي بمثابة أمر صارم: "لا تجلس على هذه الكرسي!". مع نقطة تعجب (!) تضفي على الأمر قساوةً ما. وما يضاعف من تلك قساوةً، صورة إيموجي مرسومة ترافق الأمر، لرجل مقطّب الحاجبَين، عابس، غاضب، يكاد ينفجر.
في البوابة المُفْضية إلى طائرة تورنتو، يتأكّد انطباعي عن صعوبة الأتراك في التباعد الإجتماعي، وانتماء هذه الصعوبة إلى شعوب بعينها. الذاهبون إلى تورنتو صنفَان: أوروبيون أو غربيون أصحاب بشرة وهندام، والآخرون، "شرقيون" من أفارقة وهنود وأتراك وعرب. الأولون لا يجدون أي صعوبة بالتباعد، يحترمون التعليمات، يستبقونها أحياناً، كأنها أصبحت من عادياتهم، أو هي بالأحرى جزء منها. أما الآخرون، فبالعفوية نفسها يتقاربون، لا يحترمون المسافات، لم يستدخلوا المسافات، إنما يقاومونها، من دون وعي ربما. يتقاربون، يتكلمون، يمزحون، يتواصلون. يكادون ينزعون الكمّامة من أجل إظهار ابتسامتهم، أو استكمال تعابير وجههم. وهؤلاء بالذات سيجدون في مطار تورنتو من ينبّههم، بنوعٍ من التأنيب، وفي كل لحظة، إلى "النقطة" الصفراء التي عليهم الوقوف فوقها. فيما ركّاب الرحلة الغربيون يسْلسون، كأنهم يعتمدون هذا التباعد منذ الصغر. شرقٌ ينادي الآخر عند أول فرصة، وغربٌ غارق في كينونته الفردية.