السعودية تعدّل بوصلتها ولكن …
تتّجه السعودية الى تعديل بوصلتها السياسية بصورة تدريجية وهادئة، خصوصا في مجال سياستها الخارجية، وهي تعديلات ظهرت في عديد من ملفات المنطقة، وتأمل من خلالها بالحدّ من خسائرها المتلاحقة في أكثر من موقع، رغم ما ضخّته من موارد وما في حوزتها من إمكانات ضخمة مقارنة بالقوى المنافسة لها، وربما تتيح هذه المراجعات أو التعديلات المتلاحقة شيئا من الزخم الإقليمي للدولة السعودية المحمولة على رافعاتٍ قوية، منها الموقع الاستراتيجي المهم والامتداد الجغرافي الكبير والعمق الديني (مكة والمدينة) والمخزون الطاقي الهائل.
ظهرت بوادر هذه المراجعة مع تبلور شيء من التمايز التدريجي عن خط أبوظبي في الملفّ الفلسطيني، فقد كانت أبوظبي تدفع باتجاه تطبيع ثقافي مفتوح مع دولة الاحتلال تحت عنوان "الديانة الإبراهيمية" الجديدة، في حين نأت السعودية بنفسها عن هذا التوجّه، بعدما خطت بعض الخطوات التطبيعية. وقد بدا هذا التمايز في البيان الإنكاري الذي صدر عن هيئات دينية لما عرف ببيت العائلة الإبراهيمية الذي دشّنته أبوظبي. وقبل ذلك ظهرت بوادر خلاف أوسع في الملفّ اليمني، مع تبيّن الأجندة الإماراتية المصرّة على فصل الجنوب واستغلال الأزمة اليمينة لانتزاع الجزر والموانئ، ثم الانسحاب المفاجئ بعد ذلك من الساحة اليمنية من دوام تنسيق مع الرياض، قبل أن يمتدّ الأمر ليشمل ملفاتٍ أخرى. بدأت هذه التعديلات مع رأب الصدع مع قطر والمبادرة برفع الحصار عنها في بدايات 2021، وما لحق ذلك من عودة الدفء بين البلدين بعد جفوة كبيرة، ثم التصالح مع أنقرة إثر مقتل جمال خاشقجي وما تبع ذلك من زيارات رسمية متبادلة بين البلدين على أعلى المستويات.
العلامة الأكثر بروزا في سياق هذه المراجعات الجارية في مجال السياسة الخارجية السعودية ظهرت في تطبيع العلاقة بطهران بوساطة وتحكيم صينيين بعد عقود طويلة من الجفوة والعداء المستحكمين. لفتت هذه الخطوة انتباه الجميع بأن هناك جديدا يجري في نهر السياسة السعودية، بقدر ما أثارت الانتباه إلى الدور الصيني المتصاعد في المنطقة على حساب القوى الغربية التقليدية. كما أن العودة التدريجية للخط التقليدي للسياسة السعودية في الملف الفلسطيني على نحو ما ظهر في القمّة العربية أخيرا في جدّة، يحمل مؤشّرات دالة على وجود منحىً جديدٍ في مجال السياسة الخارجية السعودية، فقد اختفت أو كادت الأصوات التي كانت تصدُر عن إعلاميين ونشطاء سعوديين تمجّد إسرائيل، وتقدح في الفلسطينيين وقضيتهم، وهذا يعني أن الجهة التي أطلقت ألسنتهم بالأمس القريب هي نفسها التي أسكتتهم اليوم. وهذا لا يعني أن الرياض قد قطعت نهائيا مع خط التطبيع، خصوصا مع تزايد الضغوط الأميركية ولهفة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإحداث اختراقٍ كبيرٍ في المجال العربي من الجبهة السعودية، وما يروج عن تجدّد الاتصالات والوساطات في المجال الخليجي، بقدر ما يعني في الحد الأدنى العودة إلى السقف المعهود الذي ظلّ يلتزم به النظام الرسمي العربي خلال العقود الأخيرة على مستوى الخطاب الرسمي.
كانت أبوظبي تدفع باتجاه تطبيع ثقافي مفتوح مع دولة الاحتلال تحت عنوان "الديانة الإبراهيمية" الجديدة، في حين نأت السعودية بنفسها عن هذا التوجّه
أدركت الرياض، تحت ضغط أعباء الجغرافيا السياسية وثقل الصراعات المفتوحة، أن التصالح الجزئي مع إيران، مهما كانت محاذيره، يظل أقلّ كلفة من التمادي في منازعاتٍ لا أفق لها في اليمن وسورية ولبنان والعراق وغيرها. كما أن طهران على الجهة المقابلة وتحت وطأة الحصار الغربي الشديد على خلفية ملفّها النووي وارتفاع منسوب التذمر الشعبي الداخلي، على نحو ما ظهر في الاحتجاجات أخيرا ثم حالة الإنهاك التي أصابتها في جبهات الصراع الكثيرة، قد وجدت، هي الأخرى، أن التصالح مع الجوار الإقليمي، وخصوصا مع السعودية، يسدّ عليها أبواب شر كثيرة. وعند التحقيق، يتبيّن فعلا أن جميع اللاعبين منهكون ومستنزفون بسلسلة من أزمات وصراعات لا نهاية لها.
أرسلت هجمات الحوثيين على المنشآت النفطية، وما نتح عن بعضها من تعطّل كبير في حركة الإنتاج، رسالة واضحة إلى السعودية بأنها لم تعد في مأمن من مخاطر المحيط المباشر، كما ولّد هذا الأمر شعورا بالمرارة الدفينة لدى صانع القرار السعودي، ومعه قناعة متزايدة بأن الرياض لا يمكن أن تعوّل كثيرا على الحليف الأميركي الذي اكتفى بإصدار بيان شجب لا غير. كان هذا الحدث الجلل دافعا لتسريع الخطى أكثر باتجاه بكين وموسكو من جهة، ثم المضي في خط التصالح مع إيران تحت المظلة الصينية هذه المرّة، بعد محادثاتٍ متعثّرة انطلقت في بغداد من دون أن تتقدّم كثيرا.
الأرجح عندي أن هذه المتغيرات التي تجري في علاقة دول المنطقة عامة من الدوحة والرياض إلى أنقرة وطهران تنمّ عن مراجعاتٍ جزئيةٍ وتسوياتٍ تكتيكية، ولا تعني، بالضرورة، تغييرا في الاستراتيجيات والأهداف الكبرى، بما يجعل الأمر أقرب إلى الوصف بالتهدئة المتبادلة لملفات ساخنة في سياق أوضاع صاخبة ومجازفة للجميع، ودليل ذلك مثلا انحياز الإعلام السعودي والخليجي في جملته للمعارضة التركية في محطّة الانتخابات أخيرا، بما يؤشّر إلى رغبة خفية في التخلص من الرئيس أردوغان، بحكم توجّهاته الإسلامية المزعجة لبعض العواصم الخليجية، رغم ما بدا من مجاملات ومصالحات ومصافحات. كما يلاحظ أن بقية ملفّات الخلاف لم تشهد تقدّما ملموسا، ولعل ذلك يدخل ضمن باب اختبار النيات وتحسّس التوازنات العامة من مختلف اللاعبين في ظل حالة الإنهاك التي أصابت كل دول المنطقة المنخرطة في النزاعات.
استنزفت الرياض كثيراً من طاقتها وبدّدت الكثير من جهودها وأموالها في معارك خاسرة بداية ونهاية
ولكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن التغييرات التكتيكية كثيرا ما تكون مدخلا لتغييرات أعمق وأشمل تطاول الاستراتيجيات، إذا ما اطمأن صانع القرار السياسي إلى أن الخيارات الجديدة مفيدة ومثمرة، أو في الحد الأدنى أقلّ ضررا، لأن الدولة بطبعها كائن "بلا قلب" تقيس سياساتها بمعياري الجدوى وميزان المنافع والمفاسد. وفي بلادنا غالبا ما تقاس الأمور من زاوية نخب الحكم أكثر مما تقيم من زاوية الدولة بوصفها كيانا عاما.
تظل هذه التعديلات في خط السياسة الخارجية السعودية جزئية ومحدودة الأثر، إن لم نقل مبتورة، ولن تعطيها الزخم الإقليمي الذي ترغب فيه ما لم تلحق ذلك مراجعة جدّية لملفين أساسيين مترابطين في مجال سياستها الخارجية: أولهما ملف الثورات العربية وما يرتبط بها من عناوين فرعية (التغيير، الإصلاح، الدمقرطة ...)، وثانيهما ما بات يعرف بالإسلام السياسي، وبصورة أوضح الحركات الإسلامية السنية التي دخلت معها السعودية في اشتباكٍ بارد، وأحيانا ساخن في مواقع كثيرة من العالم الإسلامي. لقد وضعت السعودية نفسها منذ عهد الملك عبد الله في الخط الأمامي في مواجهة موجة التغيير التي ضربت المنطقة، فجمعت من حولها الملكيات العربية وكل القوى الخائفة من التغيير، على أمل كسر هذا التيار الكبير، بل تحولت الرياض قبلة للرؤساء المخلوعين ومصدر دعم للقوى المناوئة للثورات العربية، حتى كأن هذا الأمر قد أصبح جزءا من العقيدة السياسية للمملكة.
على الجهة الأخرى استبد بالرياض هاجس خوف ممزوج بعداء للحركات الإسلامية السنّية، بعدما كانت متّهمة بدعمها، فانتهجت تبعا لذلك سياسات، وعقدت تحالفات مضادّة لطبيعتها التكوينية وتقاليدها المعروفة، وانتقلت بسرعة من التحالف الظاهري مع حركات الإسلام السياسي إلى محاربتها ومخاصمتها. والحقيقة التي لا يمكن تخطّيها أن حركات الإسلام السياسي، ومهما أصابها من "خفوت مؤقت"، ستظلّ معطىً راسخا في المشهد السياسي والثقافي العربي. وبالتالي، من الخطأ الفادح التعويل كثيرا على السياسات القمعية في اجتثاثها والتخلّص منها، والأرجح أن تستمر هذه الحركات حاضرةً في المشهد، سواء بعناوينها القديمة أو بعناوين جديدة، بما يجعل من السياسة السعودية مصادمةً لاتجاه المستقبل.
أدركت الرياض، تحت ضغط أعباء الجغرافيا السياسية وثقل الصراعات المفتوحة، أن التصالح الجزئي مع إيران أقلّ كلفة
كما أن الحدث الكبير للثورات العربية سيظل يسكن هذا المنطقة عقودا مقبلة. ولذلك تصوّر أن الأمور قد حسمت إلى غير رجعة هو وهم جميل، ولكنه مخادع ومضلّل، فالمطالب التي نادت بها هذه الثورات أو الانتفاضات، وفي مقدمة ذلك تغيير منهج الحكم وإدارة الشأن العام، ستظلّ حاضرة وفاعلة في المستقبلين القريب والبعيد، بل هي تفعل فعلها راهنا في الأنفس والوجدان والوقائع على الأرض، وليس هناك ما يضمن ألا تعاود الظهور بأشكال مختلفة وصيغ جديدة في الدول نفسها التي ظهرت فيها أو في مواقع أخرى من العالم العربي. ولذلك لن يجدي التعويل على سياسة الصد والإلغاء نفعا، فقد جربت من قبل الملكيات الإطلاقية الأوروبية في بدايات القرن التاسع عشر في مواجهة الثورة الفرنسية، وفي النهاية خارت قواها، وأصبحت شعارات الثورة الفرنسية أكثر سريانا أو أشدّ وبائية بتعبير المؤرّخ البريطاني هوبسباوم.
ليس من اليسير على الرياض الخروج عن المنحى العام الذي انتهجته خلال ما يزيد عن عقد، وخصوصا أن هذه السياسة قد تحوّلت إلى ما يشبه العقيدة السياسية للدولة التي باتت ترى في الثورات وحركات الإسلام السياسي خطرا على وجودها، ولكن تقديري أن الواقع يظل أصلب من النظريات، والمعطيات أقوى من الرغبات. وقد استنزفت الرياض كثيرا من طاقتها وبدّدت الكثير من جهودها وأموالها في معارك خاسرة بداية ونهاية، وصنعت لنفسها أعداء وهميين لقوى وشخصياتٍ لم تقابلها النظرة العدائية نفسها، كما دخلت في خطوط صراع كثيرة لا نهاية لها. معركة مع إيران والحركات الشيعية المرتبطة بها وأخرى مع تركيا ومع حركات الإسلام السنّي وكل قوى التغيير في المنطقة. وحينما تكون المقدّمات خاطئة لن تؤدّي إلا إلى نتائج خاطئة، وحينما يكون المنهج مختلا لن يوصل إلا إلى الفشل.