السعودية التي ترفض التطبيع
يتصادَف خبران من العربية السعودية، نُشرا أخيراً، يجعلانك في شيءٍ من الإرباك، على أيّ وجهةٍ تقرأ كلّاً منهما: جرى عزفٌ للنشيد الوطني الإسرائيلي في الرياض، على هامش بطولة العالم لكرة القدم الإلكترونية. وأظهرت لقطاتُ فيديو نُشرت في مواقع للتواصل الاجتماعي لاعبين إسرائيليين، يرفعون العلم الإسرائيلي وسط عزف موسيقى النشيد. وقال رئيس الفريق الإسرائيلي إنه عمل مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) المشرف على تنظيم البطولة لضمان أن يسمح السعوديون للفريق بدخول البلاد، وإن السلطات السعودية أكّدت، في رسالة منها، السماح لجميع المشاركين بدخول البلاد. وأوضح أنه لم يجر أيّ اتصالٍ مباشر بين الحكومتين السعودية والإسرائيلية في هذا الخصوص، وأن "فيفا" من نقل الرسائل. الخبر الثاني، نسبت قناة تلفزيونية إسرائيلية إلى مسؤولين إسرائيليين ودبلوماسيين غربيين قولهم إنّ السعودية ترفض الالتزام بالسماح لممثلين إسرائيليين بالمشاركة في اجتماع للجنة التراث العالمي في "اليونسكو"، مقرّر عقدُه في سبتمبر/ أيلول المقبل، وأنّ محادثاتٍ في هذا الشأن تجريها المنظّمة الأممية مع الحكومتين، السعودية والإسرائيلية.
هنا، يجيز صاحب هذه الكلمات لنفسه القول إنّ المعلّقين الذين يحسمون أنّ المملكة ذاهبةٌ إلى إقامة علاقات طبيعيةٍ مع إسرائيل، استجابة لضغوط أميركية جارية، ولهوىً في القيادة النافذة في الرياض، يُخطئون، وإن عثروا على ما يعدّونها شواهد على هذا، من قبيل دخول صحافي إسرائيلي البلاد (بجواز سفر غير إسرائيلي)، وعبورٍ متقطّع لطائرات العال الأجواء السعودية، وزيارات شخصياتٍ سعوديةٍ ليست في مواقع حكومية دولة الاحتلال في ضيافة مسؤولين إسرائيليين. كما أن الزملاء الذين يذهبون إلى أنّ المملكة لن تنضمّ إلى الدول العربية التي ارتبطت باتفاقيات أبراهام وعلاقات تطبيعٍ معلنة (بل وتحالفٍ على الأصحّ) مع إسرائيل يٌخطئون، وإن يجدون شواهد تدلّ على قناعتهم هذه. وحتى أدفع عني هنا تهمة التفاصح والتعالم على الناس، عندما أخطّئ هؤلاء وأولئك، أقول إنني لا أعرف إن كانت السعودية تعتزم بناء علاقاتٍ معلنةٍ وطبيعيّةٍ مع إسرائيل أم لا. ببساطة، لأن القرائن في هذه الوجهة وفي تلك لا تأخذك إلى أيّ حسم. فضلاً عن أنه ليس من وظائف الصحافي، من قبلُ ومن بعد، أن يعمل بصّاراً، وإنما التملّي في الذي يحدُث، وليس التنجيم في ما قد يحدُث ولا يحدُث.
يُضاعف من الارتباك المؤشّر إليه أنك تصادف لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، من التصريحات ما تؤكّد تمسّك بلاده بالمبادرة العربية للسلام التي تربط إقامة علاقاتٍ عربيةٍ مع إسرائيل بانسحاب الأخيرة من الأراضي التي احتلّتها في 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية. وقد قال الرجل هذا غير مرّة، ولكنك قد تُصادف له أقوالاً أخرى تجيز لواحدِنا أن يقول إن "السعوديين" ذاهبون في المسار إياه، أو أقلّه تجعلك في بعض حيْص بيْص. وقد حدث للوزير أن أفضى في إبريل/ نيسان 2021، لقناة سي إن إن، إنه "لا يعرف ما إذا كانت هناك صفقة تطبيعٍ وشيكةٍ بين بلاده وإسرائيل". وهذا محيّر بالتأكيد، فإذا كان شخص الوزير الرفيع لا يعرف شيئاً عن هذا، فأيّنا سيعرفه؟ وقد قال في المقابلة (المهمّة) نفسها إنّ "تطبيع مكانة إسرائيل داخل منطقة الشرق الأوسط سيحقّق فوائد هائلة للمنطقة كلها، وإنه سيكون مفيداً للغاية اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً". وقولٌ كهذا، وبهذا المقدار الظاهر فيه من الوضوح، يتيح القول إنّ ثمّة "هوى" في السعودية باتجاه علاقاتٍ طبيعية مع إسرائيل. ولكن الوزير عندما يسترسل، نراه يقول الذي ما انفكّ يقوله في مقابلاتٍ وتصريحاتٍ لاحقة، أنّ التطبيع لا يمكن أن ينجح في المنطقة "إلا إذا عالجنا قضية الفلسطينيين، وتمكّنا من إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، لأن هذا سيمنح الفلسطينيين الكرامة ويمنحهم حقوقهم". ونلقى مثل هذا المقطع من كلام فيصل بن فرحان، قبله وبعده.
إذن، ماذا نصنع، نحن في الصحافة، هل نسوّق للجمهور العام أنّ الدولة العربية الكبرى ذاهبةٌ، بعد وقت، إلى علاقاتٍ طبيعيةٍ مع إسرائيل، أم نحثّ الناس على ملاقاة تصريحاتها الرسمية التي تربط أي تطبيع بانسحابٍ إسرائيليٍّ وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس بايجابية؟ الجواب الممكن، الواقعي، هو الإلحاح على أنّ مكانة السعودية في الفضاءيْن، الإسلامي والعربي، يُخصم منها الكثير لو ذهبت إلى ما لا نحبّه لها ولا نرضاه، وقد قالت المهم والأهم في هذا رسالة مثقّفين وسياسيين فلسطينيين، أشهروها الشهر الماضي، إلى القيادة السعودية دعماً للموقف ضد التطبيع.