الرواية ملحمة القرية أيضاً
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من أهم ما يميز الرواية العُمانية أنّها تحاول أن تزرع أحداثاً في محيط قروي متشابه ورتيب، لكن خلف هذا التشابه تذوي مفارقاتٌ اجتماعية ورماد "يوشك أن يكون له ضرام" حسب شاعر عربي قديم، وهو ما يحاول الروائي أن يستثمره ويذوّبه في صيرورة زمنية توفرها عادة الحبكة الروائية. روايات تنطلق من محيط قروي جبلي، يمتاز عادة، خصوصاً في روايات الذاكرة، بالقحط والجدب في البيئة، والصراع من أجل افتكاك أبسط شروط الحياة، أو بالسفر إلى زنجبار بأفريقيا، التي كانت تشكل فردوساً للعُمانيين، قبل أن يطردوا منها بعد الأحداث الدامية التي حدثت في عام 1964.
روايات عربية كثيرة فضاءاتها المكانية المدن والحواضر، وذلك لأنّ الرواية تستجيب أكثر للمدينة، ليس فقط لأنّ الرواية ملحمة البرجوازية الصاعدة، حسب المقولة التأصيلية لجورج لوكاش، إنّما أيضاً لأنّ فرشة الكتابة في المدن تكاد تكون أكثر جاهزية، خلافاً للكتابة عن القرى والصحاري التي تحتاج إلى رصيد معجمي وأنثروبولوجي خاص، كما هو الحال مع روايات الليبي إبراهيم الكوني.
وقد تشكل عبر الزمن من يمكن اعتبارهم روائيي مدن، فمثلاً، كتب أكثر من عمل عن الإسكندرية، كما الحال مع ثلاثية إبراهيم عبد المجيد. والقاهرة، ليس المصريون وحدهم من كتبوا عنها، من أبرزهم نجيب محفوظ، إنما نجدها فضاء لروايات كتّاب عرب، مثل الأردني غالب هلسا في روايتيه "الخماسين" و"الضحك". وكتب روائيون مغاربة كثر عن المدن، وهناك من تخصّص للكتابة عن مدن بعينها، مثل محمد زفزاف في رواياته عن الدار البيضاء، ومحمود عبد الغني في أكثر من رواية عن طنجة، وإلياس فركوح ومحمود الريماوي عن العاصمة عمّان. وفي العالم نتذكر ألبرتو مورافيا الذي كتب روايات عن روما، ودستويفسكي عن سان بطرسبورغ.
في الرواية العُمانية، يمتاز زهران القاسمي بأنّ رواياته تدور بعيداً عن المدن، في القرى والجبال. وفي ما قرأت له لاحظت اهتمامه الحثيث باجتراح معجم قروي محلي، والبحث، بالتالي، في تلافيف الذاكرة الجمعية عن مفرداتٍ موغلة في محليتها، يسعى إلى نفخ الروح فيها وإنعاشها، لكي تشقّ طريقها في ذهن قارئ عصري ابن الألفية الثالثة، وإن تشبث في مظهره بتراثه، لكنّ ذهنه مقيّد بأوتار الفضاء الرقمي والحياة الاستهلاكية المتنامية. مثلاً في روايته الثانية "القناص" نجد لديه قاموساً جبلياً ثرياً يتعلق بأنواع الأشجار الجبلية، وبمختلف مفردات الطبيعة العُمانية التقليدية. يبذل مجهوداً بحثياً (تجميعياً) قبل أن يفتح باب خياله ونوافذه لتدبيج روايته.
سنجد أيضاً مجهوداً معجمياً محلياً في رواية زهران القاسمي الصادرة أخيراً "تغريبة القافر" التي تحكي عن صبيٍّ له قدرات خارقة في معرفة مكان الماء في الأعماق، عن طريق السماع، بإلصاق أذنه على قشرة الأرض. ويمكن تلمس الأمر عينه في رواية زهران الثالثة "جوع العسل". أبدع فيها بالاستفادة من تجربته الخاصة، وتمثيلها في النص. كما أنّه لم يرتكن فقط إلى ما حفظه عقله وتمرّست به يداه (عمل زمناً في تربية النحل) إنّما أعمل خياله في تزويد روايته بعوالم صحراوية ومفارقات اجتماعية دعمت الحدث الرئيس في الرواية.
وبذلك يخرج القارئ من روايات زهران القاسمي، إلى جانب متعة الحكي، بمحصول وافر من المعلومات المتعلقة بالمفردات العُمانية القديمة، خصوصاً أنّ القاسمي يعيش بين أحضان الأفلاج والنخيل في بلدة مس، التابعة لولاية دما والطايين. وهو بذلك لم تجلبه العاصمة إلّا للزيارات وحضور الفعاليات، لكنّ الحضن الحقيقي له يظل بلدته، ملتمساً، عبر الكتابة والعزف على آلة العود، العون في هزيمة الرتابة فيها، وإيجاد المختلف في إطار حياةٍ تتميز بالمشابهة والتناسخ، وذلك بالبحث في تلافيف ذاكرة الحياة من حوله عما هو أصيل وصالح للبقاء، وكأنّه يتمثّل بقول أبي الطيب المتنبّي: "حسن الحضارة مجلوب بتطريةٍ... وفي البداوة حسن غير مجلوب".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية