الرجل الذي قرأ البلاغ رقم واحد

01 ديسمبر 2023
+ الخط -

قليلون هم الذين يعلمون أنّ الفراشات قد تكون قاتلة، رغم حياتها القصيرة، ورغم ألوانها، وانجذابها الأهبل للنّار. وأنّ الطبيعة تمنح لأرقّ كائناتها، أسلحةً أيضاً، كما تفعل مع الجميع. وإلّا كيف تنجو؟ ولكن ماذا لو صارت الفراشات قاتلة، واستعملت أسلحتها الدّفاعية، للهجوم على باقي الكائنات من الحشرات، وشبه الحشرات، منها؟ وعاشت في محيط النّار، وعلى حافة سكّين.

تخيّل ألا يُخرج جمالُ هذا الكائن صاحبه، من طبعه الحَشراتِي، كما لم يُخرج العقلُ الإنسانَ من أصله الحيواني. فالمرء ابن أصله، والأصل يغلب الفصل. ولا تغرنّنا المظاهر، فالقرد رغم أنّه يُعتبر في عين أمه غزالاً، فإنّه لن يصبح غزالاً أبداً، حتى لو مشى على أربع، وتخلّى عن طبعه "القافز"، وامتنع عن أكل الحشرات، ملتزماً بنظام غذائي نباتي. بل لن يصبح حتّى ماعزاً، ولو نفخ ضُروعه اليابسة لتدرّ حليبها.

قد تقتل الفراشات نفسها، ليس بتحويمها حول النّار فقط، بل بالعيش على الحافّة، فيسهُل اصطيادها. لا تظهر الإصابة بوباء الفراشات أعراضاً جسدية، فهو قد يكون غير مرئيّ، حتى لو كان قاتلاً حسب درجة ونوع الفيروس، وحسب مزاج الحظ، هذا الكائن اللّئيم الذي يكمن لنا، وقليلاً ما يخبّئ لنا حُسْناً. فهو غالباً يفعل ذلك للآخرين، أما نحن فيدفعنا إلى عالم الفراشات.

"حياة الفراشات" رواية الكاتب المغربي يوسف فاضل، الذي يكتب منذ عقود عن الحياة على الحافة، حافة كلّ شيء، لشخصيات اختارت أن تعيش حقيقتها العارية. ويشتغل يوسف بشكل مستمرّ، مثل روائيين آخرين، على فترة سنوات الرصاص، من سبعينيات القرن الماضي، التي تحمل أحداثاً غنية للروائي ذي الوعي السياسي، وله رغبة في التملّص من فخاخ الحاضر. الماضي أغنى، رغم أنّ الفراشات كانت يرقات فقط في الماضي، لكنّها كانت مفيدة إذا استغلت وقتها في إنتاج الحرير، وهو الفعل الأكثر أماناً، لأنّ الطيران خطير. وهو أخطر في تلك الفترة من تاريخ المغرب، التي عرفت انقلابين، ومحاولات أُخرى غيرها واضطرابات وانتفاضات كثيرة.

في "حياة الفراشات"، يغادر الفنان مبنى الإذاعة في الخامسة والنصف بعد الظهر، مترنّحاً، مغمضاً عينيه. لم يكن من الضّروري أن يفتح عينيه، ليتقدّم في الزقاق الصّامت. كأنما يستعدّ لاستقبال الصّوت المخيف، صوتُ فراشة دُفعت غدراً إلى النار، صوته هو. بعد قليل سيسمعه، متردّداً داخل البيوت التي يمر عليها، من المحطات الإذاعية، وعلى الشّاشات فاضحا إيّاه". ماذا فعل؟ لقد أرغمه انقلابيون، فيما كان جالسا في مبنى الإذاعة الوطنية، في انتظار تسجيل أغنيته، على تسجيل بيان الانقلاب، هو الذي كان يقضي حياته يرقةً تحلم أن تصبح طائراً يغني، ولا يكتفي بالتحليق العبثي مثل الفراشات.

عبر أزقة لم يرها من قبل، ولا يذكر كيف وصل إليها. يمشي شارداً مرعوباً من أن يتعرّف إليه أحد، ويشير إلى جهته، صارخاً: "ها هو الرّجل الذي قرأ البلاغ رقم واحد". سمع صوته لأوّل مرّة، من راديو سيارة، كفضيحة ثقيلة الأثر سريعة العدوى. وكان يأمل أن يبقى الصوت "حبيس مبنى الإذاعة"، لكن أمله خاب، ولم يعد "الشخص النكرة الذي يستقل القطار ليعود إلى بيته وإنما الرجل الذي شارك في الانقلاب".

يأتي صوته من سيارة "استغرق مرورها البطيء الحامل صوته دهراً". وحين اختفت عن الأنظار، انطلق الصوت من بيت مجاور، ثم من الذي بعده... وكأنه يمشي معه، ويطارده مذكّراً إياه بمصيبته. إنما لن يمنحه الصوت الإجابة عن السؤال الذي يؤرّقه: "هل نجح الانقلاب؟" مع العلم أن استمرار بث البيان الصّوتي، يعني أنه مستمر، لكن الخوف شلّه وحمّله مكرهاً همّ المصير النهائي للانقلاب، مستعجلاً نجاحه. هو الذي كان غير ذي شأن، أو نشاط سياسي، صار جزءاً من انقلاب لا يد له فيه، يتمنّى نجاحه أكثر من أصحابه، حتى ينجو من عقاب ينتظره إذا فشل، باعتباره متواطئا مع مدبريه.

متى كانت الفراشات تتواطؤ ضدّ نفسها؟ إنّها فقط تلقي بنفسها إلى ما يلمع، حتى لو كان قاتلاً، وكلّ ما تتمنّاه إحداها ألّا تدفع ثمن إقبالها على الحياة محلّقة، ولو بلا جدوى أو اتجاه.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج