الربيع العربي وإعادة التفكير في النهوض الحضاري

11 نوفمبر 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

صادفني بعد الكتابة عن خرائط الإصلاح والتغيير والنهوض في عدة كتابات أن شاركتُ في ملتقى بأحد المراكز البحثية، وكان المتحدث الباحث السوري مازن هاشم، وكنت بصدد عرض هذه المداخلة القيمة التي ألقاها عن خريطة ردود أفعال الإسلاميين حول ما أسماها "مقامات الفكر الدعوي"، إلا أن المحاضرة أوحت إليّ بعد ذلك باستطلاع ما كتبه هاشم عن فكرة الإصلاح والتغيير، خصوصا أن له موقفا مشهودا ارتبط بثورات الربيع العربي، والثورة السورية خصوصا، وهو ما استحقّ به أن أكتب عدة مقالات، تعبّر عن منهج النظر عنده إلى الربيع العربي، حيث يطرح تساؤلات مهمة عن كيفية تصوّره للتغيير على طريق النهوض والإصلاح.

وجدته منشغلا بأمور المنهج العلمي ويستثمره في المزج بين الاجتماعي والسياسي والنواتج الفكرية، منشغلا بعلم اجتماع الفكر والمعرفة، وهو في ذلك كما نراه يتمثل عمق منى أبو الفضل، وفلسفية إسماعيل راجي الفاروقي وبساطة عبد الوهاب المسيري، وحكمة طارق البشري في مناهج النظر، رحمهم الله. ومازن هاشم ابن مدينة دمشق، والحاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا، ويعمل أستاذاً جامعياً في جامعة جنوب كاليفورنيا، وله صلات عديدة بمؤسسات مختلفة تنشغل بالدراسات الحضارية والعلوم الاجتماعية، وتنوعت بحوثه في حقول عدة، بما فيها مراجعات في الفكر الإسلامي، ومقاصد الشريعة، ومنهجية البحث، وحركات التغيير، والتنمية المتوازنة، والوجود المسلم في شمال الولايات المتحدة. وتأتي دراسته بعنوان "الثورة وملامح التغيير" لينطلق فيها من حدث الثورات العربية، ليؤسّس ويراكم في مناهج النظر ليقدّم أطروحاتٍ قيمة للنهوض والتغيير في عالمنا العربي والإسلامي.

وقد حرص مازن هاشم على بيان منهجية تناوله الظاهرة، مبينا ضرورة التعرّف على السلبي قبل الاستناد إلى الإيجابي ودوره في البناء على طريق التغيير، وكيف أن الثورة العربية كان كاشفة وفاضحة، وبينت الجهد التوعوي المبذول في التوعية وإحداث الإدراك العمومي، وكذلك التواقت في انكشاف الأمور على حقيقتها في مختلف حقول الحياة، وإدراك أن زوال الخبث مطلوب قبل إحلال المنافع، بل ويرى أن التحدّيات التي تتعرّض لها الثورة العربية هي مزيد من التبين وتوالي الانكشافات، مؤكّدا أن انسداد أفق الإصلاح جعل من الخسارات الظاهرية ضرورات عملية استراتيجية.

ورصد أبعاد ما أسماه ترهّل الأيديولوجيات الإسلامية، وأنها تتمثل في الواقع البشري الحاضر للمسلمين، والحقيقة العالمية الواسعة التي تعيشها مجتمعاتٌ ترى نفسها أنها مسلمة هوية وقيما وأعرافا، والعمق التاريخي للأمة. وتحدّث عن المبادرات المتخصصة، كما أشار إلى التوجهات الفكرية، وكذلك التوجهات الصوفية، وجماعات الغلو. ويخلص إلى أن الأطر الناظمة لجهود فئات العاملين تتطوّر في غمرة مواجهة الواقع دائم التغير، وتتراوح درجة تبلورها المؤسّسي فتتفاوت بين درجة المأسسة ودرجة ضم أفراد من خاصة القوم أو عامتهم، مشيرا إلى أنه كثيرا ما تعجز الأطر عن تجديد نفسها وتوسيع منظورها، وهو ما قد يؤدّي إلى أن تفقد الوسائل المعروفة فاعليتها، فتستحكم عطالتها ويتخلف الإبداع. ويؤكد أن هناك قاعدة عامة تقول إنه إذا كان التغير نوعيا، لزم زوال الأطر ولم ينفع رقعها، لأنها عند ذلك تصبح حابسة للكمون مانعة من انطلاقه.

انشغل مازن هاشم بتوضيح استدارة التاريخ، مبيّناً أن هناك لحظات مفصلية في حياة الأمة، أولها لحظة حطام الدولة العثمانية

كما يتحدّث مازن هاشم عن الشكوك وتخلخل العادات والطقوس؛ مبينا أن الأنظمة العقدية تحيط بها ثلاث طبقات حماية تتمثّل في المسلمات الواضحة التي لا يقبل الجدل فيها، والقواعد الضابطة التي تنظم الجزئيات، فتشكل سورا حول البذرة، وطقوس السلوك التي تستثمر الاعتياد كي لا يشوش على انسياب النشاط، إلا أن هذه الطبقات تتأثر بالأزمات المزلزلة والأزمات المباغتة والأزمات العصيبة، وكل منها تستهدف واحدةً من الطبقات الثلاث السابق ذكرها.

ويتحدّث عما أسماه إفلاس الطروحات العلمانية، وكيف أن هذا الإفلاس لا يقتصر على بلادنا العربية، بل كان سابقا في دارها الذي ترعرعت فيه، ولا يمكن أن نفصل ما يجري في ساحات الفكر والفلسفة عن سقوط الحداثة، فلقد نتج عن هذا السقوط ظهور ما بعد الحداثة، وهي ليس فيها إلا التفريغ الداخلي للمحتوى والسقوط في العبثية على مستوى الفكر والتطبيق، كما أشار إلى الأقليات والخروج من المجتمع، مؤكّدا أن تصميم بلادنا منذ السقوط العثماني اعتمد على استثمار الأقليات، وخصوصا غير المسلمة منها، سواء في تركيا أو مصر أو بلاد الشام، ويفسر لفظ الخروج من المجتمع بأنه ذلك التمحور حول المصالح القريبة وتطييف النفس ورسم الأولويات وفق الذات الضيقة، مؤكّدا أن جماعات الغلو لا تسأل عن هذا الخروج، خصوصا أنه قد سبق ظهورها، وأن سبب "الخوف الوسواسي" هو التعلق بأنموذج سراب ليبرالي خارج الأوطان.

كما يشير إلى الخروج من سجن الدولة الحديثة، مؤكّدا أن هذه الدولة تعتدي على المجتمع بطبيعتها، ومن خلال مؤسّساتها التي يفترض أنها لازمة لإحكام الإدارة، وحين تقع هذه الدولة في قبضة الفرعونية الطاغوتية تحاول سحق المجتمع، فإذا كانت طائفية أقلوية تحاول، إضافة إلى سحق المجتمع، محو الثقافة. وهنا يرفض استخدام لفظ الاستبداد، مؤكّدا أن الطاغوتية تجمع بين عناصر ثلاثة؛ تحكّم نمط الدولة الحديثة، وتحكّم معاداة طبيعة المجتمع، وتحكّم الحقد على ثقافة المجتمع، مشيرا إلى أن الثورة العربية في عمقها رفض لهذه التحكّمات الثلاثة ورفض لتلك الطبقات المتراكمة للظلم الاستئصالي، مؤكّدا أن الإصلاح محال ولا يأتي إلا بسراب، ومن ثم لا بد من إطار سياسي جديد، مناظر لاستنادات الاجتماع المسلم من ناحية، ومقاوم لضغوط المنظومة العالمية من ناحية أخرى.

يطالب بفهم الواقع فهماً قويماً، وفهم أعمق للمنظومة الملهمة للقيم، معتبراً أن هذه هي العقدة التي يتراوح فيها الحراك الثوري

وانشغل بتوضيح استدارة التاريخ، مبيّنا أن هناك لحظات مفصلية في حياة الأمة، أولها لحظة حطام الدولة العثمانية وما تبعها من جدال هوية جامعة إسلامية أم هوية عربية مسلمة أم هوية قومية عربية أم هوية مواطنة قطرية، ولحظة بغداد والقدس؛ حيث حواضر الإسلام التي بناها المسلمون بجهدهم وجهادهم تدمر تدميرا. والثالثة لحظات الاغتيال، وقد بدأها بلحظة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما تبعها من حوادث اغتيال، كان لها تأثيرها على الأمة، معتبرا أن هذه اللحظات يستبطن معانيها ودروسها المفترضة جمهور الأمة، وهي الآن تعود إلى المخيّلة المسلمة كمسطرة لتفسير أحداث شديدة التراكبية، وربط ذلك مباشرة بالمراجعات التاريخية، مشيرا إلى أن هناك مراجعات غير إرادية لا تجرى في عالم الفكر وحده، وإنما أيضا في أرض الواقع وبين عامّة الناس.

وعن المنطق الواقعي وسياسة الأمة؛ يطالب بفهم الواقع فهما قويما، وفهم أعمق للمنظومة الملهمة للقيم، معتبرا أن هذه هي العقدة التي يتراوح فيها الحراك الثوري، بعد أن تعرّض لما نسميها نحن الثورات الثلاث، ثورة توقعات الناس، والثورة الحقيقية الأولى، والمضادّين للثورة. هكذا يرى هاشم أن ملامح التغيير الحضاري شاخصة، وإنْ كانت غير حاسمة أو مكتملة بعد، وإذا توازى هذا الثقافي مع الجيوسياسي بتشكّل أربع كتل فيدرالية، مغاربية ولحوض النيل ولبلاد الشام وللجزيرة العربية… فيدراليات داخلها إداراتٌ محلية وتتوّج من فوق فيما بعد باتحاد كونفيدراليات… إذا حصل توازي الشرط الثقافي مع الشرط المادي، تكون قد اكتملت حلقةٌ لتغييرٍ حضاريٍ بالغ.

تتميّز هذه الرؤية ضمن مقاله المهم، المنشور بعنوان "الثورة وملامح التغيير الحضاري" في موقع الرشاد الإلكتروني، بهذه النظرة المنهجية الواعية، وبمدخله الاجتماعي والسياسي، وبما يمثله من نقد للمعارف الغربية وكذا ممارسات الإسلاميين، فإنه بذلك يوازن في رؤيته المقارنة، فيلتقط التجليات الكاشفة، والمنهجيات الفارقة، والرؤى البصيرة الناقدة في سياق أهدافه في التعرّف على موجبات التغيير وقدراته، وكيف يكون ضمن التعرّف العميق والدقيق لمعطيات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".