الرئيس يحاضر في "نيويورك تايمز"
رحم الله محمد الماغوط وخلدون المالح، شخّصا في مسرحيتهما "ضيعة تشرين" (1974)، بطرافة وإتقان، مشهد عنترية المختار (نهاد قلعي) في إجاباته، متجهّماً، على أسئلة الصحافي الأجنبي الذي جاء ليستوضح موقف أهل الضيعة بعد سرقة كرْمٍ منها. كان المشهد كاريكاتيرياً، أُريد منه أن يُضحكنا، نحن المشاهدين، على بؤس أداء الحاكم العربي، وهو يتحاور مع وسائل الإعلام الأجنبية لشرح وجهات نظرنا وقضايانا. على الرغم من الاختلافات الوفيرة، والمسافة الزمنية الطويلة، بينهما، فإن ذلك المشهد المسرحي ومشهد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، يحاضر في صحافيين من "نيويورك تايمز" يوم الجمعة الماضي، يشتركان في اجتماع الإضحاك والأسى فيهما معاً. على ما يتأكّد من قراءة ما نشرته فيفيان يي، من تفاصيل عن لقائها، وزميلةٍ وزميلٍ لها، مع الرئيس، وقد تحدّث إليهم عن عظمة الدستور الأميركي، وعن السّعة في حرية التعبير في تونس، وعن حمايته مؤسّسات الدولة في الإجراءات التي اتّخذها أخيرا. وذلك كله وغيره، من دون أن يُتيح لأيٍّ منهم أن يسأل أي سؤال. وعلى ما أوضحَت، فإن الجلسة هاته تمّت بطلبٍ من القصر الرئاسي، وليس من فيفيان التي قدِمت من القاهرة إلى تونس لإنجاز تقارير عن المشهد التونسي المستجدّ بعد الذي فعله سعيّد مساء 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز).
تُغبَط الزميلة الأميركية على فائض الحرية والثقة بالنفس لديها، وقد كتبت ما كتبت بتلقائية، ومن دون تحرّز، أو مجاملةٍِ، أو مراعاةٍ لأي حسابات، والتزمت أمانتها المهنيّة في نقل ما صار في اللقاء، الغريب حقاً، وغير المألوف في أعراف الصحافات الأميركية والغربية. لقد اعتاد الحاكم العربي، على دعوة (هل نقول استدعاء؟) الصحافيين من مواطنيه، ليستعرض قدّامهم منجزاتِه العظيمة ووعوده المؤكّدة، ليُذيعوا كلامَه ويشيعوه. وإذا أجاز لهم طرح الأسئلة، فإنّها غالباً ما تكون مسبوقةً بطقوسٍ بروتوكولية وتزبيطاتٍ مرتّبة. ويتذكّر صاحب هذه السطور أنّ جلسةً ضمّته وزملاء عرب مع وزير عراقي في بغداد، قبل 25 عاما. سألناه عن وقائع جارية، أمّا صحافية أميركية كانت برفقتنا، فقد أبلغته استهجانها كثرة تماثيل صدّام حسين وصوره في الشوارع والميادين، وسألتْه عن سبب كثرتها المُفرطة (لا داعي لذكر إجابة الوزير المضحكة). وأتذكّرني قد استبدّت بي مشاعر غيرةٍ من تلك "الزميلة" (؟).
هل كان قيس سعيّد يظن أنّ الصحافيين الثلاثة سيروّجون في "نيويورك تايمز" كلامه الدعائي عن نفسه منقذاً تونس؟ هل دار في أفهامه أنّهم سيقبضون تشبيهه نفسَه بالرئيس الأميركي الأسبق، أبراهام لينكولن "الذي اتّخذ إجراءاتٍ استثنائية للحفاظ على النظام"؟ هل تخيّل أنّهم سيأخذونه على محمل الجدّ، وهو يوحي بأنّه كما ديغول، في عدم دكتاتوريته في عقده السادس من عمره؟ ما الذي أراده بالضبط عندما أسهب في "محاضرته" عن عظمة الدستور الأميركي (أبلغهم إنه درّسه في الجامعة)، وقرأ نصوصاً فيه من أوراقٍ بين يديه، وتحدّث عنها بشيءٍ من الفرنسية؟ إذا ظنّ فخامته أنّ ضيوفه الثلاثة معنيون بأمرٍ كهذا فهو مخطئ، فهم ليسوا في حاجةٍ إلى أن يعرّفهم أحد بدستور بلادهم، ليس لأنّهم يحفظونه، أو يعرفون بنوده جيداً. لا، بالعكس. ربما لا يدرون عنه الكثير، لأنّهم يحوزون، في مزاولتهم حياتهم، كامل الحقوق الفردية والعامة التي يحميها هذا الدستور، ولأنّ قيمه متحقّقةٌ وماثلةٌ بين ظهرانيهم، من دون أن يشغل مواطنٌ أو سياسيٌّ نفسه بتفسيره وتأويلاته وصلاحيات هذا وذاك فيه. كان على مستشاري رئيس تونس أن يعرّفوه بهذه البديهية، بدل أن يضيّع وقت الزملاء الثلاثة في سماع ما لا حاجة لهم أن يسمعوه.
لم يبدُ تقرير فيفيان يي في "نيويورك تايمز" منتقداً إجراءات قيس سعيّد وتدابيره المعلنة أخيراً، كان متسائلاً بشأنها، وفي الوقت نفسه، غير واثقٍ من سلامتها. بدا معنياً أكثر بنقل المشهد في حضرة الرئيس محاضِراً، وبإخطار القرّاء بأنّ الصحافيين الثلاثة كانوا مثل "كومبارس" أو "إكسسوار" في مشهدٍ للتلفزيون التونسي وصفحة الرئيس في "فيسبوك". جاء التقرير تسجيلياً في مبناه العام، أشبه بسيناريو لمشهد ممثلٍ على خشبة المسرح يلقي مونولوغا، ويُنصت إليه متفرّجون. لكن، هل نَفَعَ هذا الرئيسَ بشيء، وهو الذي قصد أن يوضح للوسط السياسي والإعلامي الأميركي أنّه لم يقترف انقلاباً؟ المؤكّد أنّ الإجابة بالنفي، بدلالة الذي أفادتنا به فيفيان يي، وقد ذكّرتنا بما أبدعه محمد الماغوط وخلدون المالح، قبل 47 عاماً، في "ضيعة تشرين"، وما زلنا على ضحكتنا، يُبقينا عليها قيس سعيّد مشكوراً.