الرأس الهزّاز
الحاشية التي حول الزعيم، خصوصاً الزعيم الديكتاتور، لا شيء يضمن بقاءها، كما يفعل ذلك رأسها الهزّاز الذي يوافق على مقترحات الزعيم، ويثني على ذكائه وعبقريته، ويهزّ رأسه في كلا الاتجاهين، بحسب النبرة التي تصدر عن الزعيم. وإذا اكتشفت أنّها لم تُصب الهدف، تستطيع تغيير موقفها فوراً من دون أدنى حرج، وهذا ما يثلج صدر الزعيم. الرؤوس الهزّازة لا يقتصر حضورها على الحاشية القريبة، فهي تملأ مقاعد البرلمان أو مجلس الشعب، حيث يجلس النواب ويهزّون رؤوسهم، موافقين على قرارات الزعيم الذي هو ولي نعمتهم عملياً، حيث لا انتخابات حقيقية ولا برامج انتخابية ولا نيات لخدمة أحد من الشعب هناك. الوزراء أيضاً، بما في ذلك الوزير الأول، يحوّلون رؤوسهم إلى رؤوسٍ هزّازة، قبل أن يصبحوا وزراء. وكلّ واحد من هؤلاء يجمع حوله مجموعة من هزّازي الرؤوس. وهكذا، فإنّ مؤسسات دولةٍ بأكملها تتحوّل إلى رؤوسٍ هزّازة تلعب عادة دوراً تدميرياً، إذ لا يجرؤ أحدٌ على قول الحقيقة، أو الاعتراض على الرأي الذي أطلقه الزعيم، أو طرح رأي صحيح مخالف لرأي الزعيم.
لماو تسي تونغ قصة مشهورة آثارها مدمّرة، يمكن طرحها مثالاً هنا. قرّر ماو أن يسبق إنكلترا في صناعة الفولاذ، فهز الجميع رؤوسهم، وبدأت الاقتراحات التي أفضت إلى بناء الأفران لصهر الفولاذ في كلّ أصقاع الصين. وتفرّغ لهذا الأمر جميع سكان الصين تقريباً، فترك المزارعون حقول الأرز، وتفرّغوا لصهر الفولاذ، ما أدّى إلى توقف إنتاج الأرز، وهو الطعام الأساسي للصينيين، كما اضطر الجميع إلى تقديم أيّ شيءٍ معدني لصهره في أفران الفولاذ، ولم تبقَ في البيوت حتى أدوات طعام. وكانت نيران الأفران لكي تحافظ على درجات الحرارة العالية تأكل كلّ ما يلقى لها من الخشب، حتى أكلت النوافذ والأبواب والأسقف، وكلّ شيء خشبي في المنازل. وسادت المطاعم الجماعية في القرى، لأنّه لم يبقَ للناس ما يتناولون طعامهم بمساعدته. وبالفعل، تمكّنت الصين من التفوّق على إنكلترا في صناعة الفولاذ من حيث الكم، لكنّه كان فولاذاً رديئاً لا يصلح لشيء. ورافقت هذا التفوّق مجاعة حقيقية، لأنّ الفلاحين تركوا أرضهم وحقولهم وتفرغوا لصهر الفولاذ... ولم يكن حظ الزعيم السوفييتي خروتشوف أوفر من ماو، عندما قرّر أن يتفوّق على الولايات المتحدة بإنتاج الذرة، إذ أدّى ذلك إلى ضرب المحاصيل الأخرى.
كلّ هذه المهازل كان يمكن أن تحدُث فقط، لأنّ وفرةً كانت في الرؤوس الهزّازة التي لم تستطع أن تبوح بخطأ الفكرة التي قدّمها الزعيم، على الرغم من أنّها تعرف ذلك. في كتاب "كليلة ودمنة" عندما يزداد بغي الملك دبشليم، يقول الفيلسوف بيدبا لتلاميذه ما معناه أنّ الفيلسوف لا يجوز له أن يصمت عن بغي ملكه، فإما يصارحه بالحقيقة أو يرحل عن البلاد. وبالفعل، يذهب بيدبا إلى الملك دبشليم، ويصارحه بحقيقته، ويكاد يدفع رأسه ثمناً لذلك. لكنّ دبشليم سرعان ما يتراجع عن قراره، ويقتنع بكلام بيدبا، وتنصلح الأمور.
هذا في القصص فقط، ومنذ زمن بعيد. يختلف الأمر الآن، فلا وجود لبيدبا يرحل إلى خارج البلاد. ليس الرأس الهزّاز حكراً على دوائر السلطة، فهو يتوفر بكثرة حتى في المؤسسات الخاصة، ذلك لأنّنا نتعامل مع صاحب العمل كولي نعمة، ولا نتعامل مع عملنا كضرورة لربّ العمل. هؤلاء الأشخاص ستواجههم، أنّى ذهبتَ وحيثما حللتَ، وسيعلمونك ما عليك فعله في أداء عملك، بعد ملاحظةٍ وجّهها رب العمل، ربما تكون غير صحيحة، وما عليك عندها إلّا أن تنسحب أو تهز رأسك لهم، حفاظاً مثلاً على لقمة عيشك أنت الآخر. وبدورهم من هم تحتَكَ سيهزّون رؤوسهم لك. وهكذا يتحوّل البلد إلى كائنات تشبه نقّار الخشب لكثرة الرؤوس الهزّازة، وسيصبح هزّ الرأس ثقافةً يمارسها الشخص، حتى عندما يبتعد عن الأماكن التي تتطلب ذلك، وبدلاً من أن يهز رأسه لرئيسه، ستراه يهزّ رأسه لأيّ كان، لأنّه لا يستطيع التوقف عن ذلك.