الديمقراطية والعقدة الأوروبية
في ظل أزمتها الراهنة في أوكرانيا وانهماكها كليا بتأمين إمدادات غاز كافية تقيها برد الشتاء الذي صار على الأبواب، وتؤمن استمرار دوران عجلة اقتصاداتها؛ يصبح انتظار موقف أوروبي أكثر قوةً بخصوص تعثّر المسار الديمقراطي في تونس أمرا ينطوي على شيءٍ من المبالغة؛ لكن الحقيقة أن أوروبا لم تبد يوما حماسة كافية لنشر الديمقراطية في جوارها العربي؛ الشمال أفريقي تحديدا، بغض النظر عن الظروف التي تواجهها. وعلى العكس من الولايات المتحدة، لا نجد في الخطاب السياسي الأوروبي الكثير عن دعم الديمقراطية أو نشرها عربيا. ويعود ذلك ربما إلى التجربة التاريخية المختلفة بين الطرفين، فمن جهة لم يكن للولايات المتحدة ماض استعماري، خصوصا في العالم العربي، لكنها عندما قادت تدخلات عسكرية فيه (العراق مثلا) برّرت ذلك، جزئيا أقله، برغبتها في نشر الديمقراطية باعتبار أن في ذلك مصلحة أميركية، لأن الاستبداد، بحسب وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس في خطاب القاهرة الشهير عام 2005، مسؤول عن إنتاج التطرّف والإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة نفسها في سبتمبر/ أيلول 2001. أما الدول الأوروبية الكبرى فقد مارست أدوارا استعمارية في المنطقة العربية وحول العالم لم تأت خلالها على ذكر الديمقراطية؛ بل كانت ترى أنها في مهمةٍ حضاريةٍ (فرنسا خصوصا) أي تحضير (Civilize) الدول غير المتحضرة. وربما يعود السبب أيضا إلى أن أكثر الدول الأوروبية نفسها لم تصبح ديمقراطياتٍ راسخة إلا في فترة متأخرة نسبيا. فرنسا مثلا لم تترسّخ تجربتها الديمقراطية إلا بعد حرب 1870. ألمانيا لم تبدأ حياة ديمقراطية حقيقية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، أما جنوب أوروبا (إسبانيا، البرتغال، اليونان) فكان عليها أن تنتظر قرنا آخر. ومن المحتمل أيضا أن القادة المنتخبين يخافون أن ينعكس التأكيد على الممارسة الديمقراطية لدى الآخرين سلبا على حظوظهم الانتخابية، بمعنى أن حياتهم الديمقراطية تعتمد على لاديمقراطية الآخرين، فالأوربيون لا يريدون المخاطرة بمصالحهم الاقتصادية والتجارية، بإغضاب الآخرين من خلال الحديث عن الديمقراطية.
فوق ذلك، بات شائعا اليوم الحديث عن وجود فهمٍ مختلفٍ لماهية الديمقراطية نفسها حتى أوروبيا، في ظل بروز نسخ مختلفة من الديمقراطية، خصوصا مع صعود ما يسمّى (“illiberal democracy”–a political system with free elections but scant regard for civil liberties.) حيث انتخابات وتعدّدية في المرشّحين، إنما من دون احترام للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة. أخيرا، نحن نتحدّث عن دعم أوروبي للديمقراطية في وقت ينحسر فيه المد الديمقراطي عالميا، وتصعد فيه الممارسات غير الديمقراطية حتى أوروبيا، مع صعود اليمينيْن، القومي والشعبوي، وتزايد الإعجاب بنظرية الرجل القوي من فيكتور أوربان في المجر إلى بوتين في روسيا وترامب في أميركا.
ويمكن عموما استخلاص سماتٍ عامة للمواقف الأوروبية من قضايا التحول الديمقراطي في العالم العربي، فلمعظم الفترة الاستعمارية كان الخطاب السائد أوروبيا تحضير المستعمرات التي كانت تعيش في ظل أوضاع من التخلف والبربرية، ويمكن أن نشهد هذا بشكل واضح في كتابات الرحالة والمستشرقين الأوروبيين، ابتداء من القرن السابع عشر وصولا إلى مطلع القرن العشرين، وإن كان التركيز يختلف بين بدايات هذه الفترة ونهايتها، حيث كان في بدايتها متركّزا أكثر على الاختلافات الدينية، في حين أصبح في آخرها يتركز على الاختلافات الثقافية والحضارية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانطلاق الحرب الباردة، ووصول الفترة الاستعمارية إلى نهايتها، ظلت الديمقراطية لا تجد لها مكانا على الأجندة الأوروبية، بسبب سيطرة الخوف من الاتحاد السوفييتي على كل ما عداه من اهتمامات. لذلك جرى دعم أنظمة محافظة مستبدّة تشترك مع الغرب في عدائها الاتحاد السوفييتي. بعد انتهاء الحرب الباردة، أضاعت أوروبا فرصتين تاريخيتين لتعزيز الديمقراطية في شرق المتوسط وجنوبه: الأولى مع انهيار المعسكر الشرقي، حيث بدت الدول العربية، خصوصا منها التي كانت تعتمد في دعمها على الاتحاد السوفييتي السابق، في وضع هشّ يمكن معه دفعها باتجاه إصلاحات سياسية فعلية عبر مساعدات اقتصادية مشروطة. الفرصة الثانية، ظهرت مع الربيع العربي، وأخذت منها الدول الأوروبية مواقف متخاذلة في العموم. إضاعة فرصة إنقاذ الديمقراطية الوحيدة الناجية من "مجزرة" الربيع العربي ليس الا استمرارا لنهج أوروبي مديد.