الديمغرافيا والإسرائيليون

18 فبراير 2023
+ الخط -

يسعى الإسرائيليون إلى التحايل بوقاحة على كل شيء: التاريخ والأخلاقيات والسياسة وعلم الاجتماع، باقتحامهم البلدات والقرى الفلسطينية، وبتجاهلهم كل المواثيق الدولية في حال لم تصبّ في صالحهم. يعملون وفق قاعدة واحدة: "نقبل بأحكام المجتمع الدولي ما دامت في مصلحتنا، ولا نعترف بها إذا صبّت في مصلحة الفلسطينيين". لذلك، عمدوا، في الأسابيع الأخيرة، إلى تكثيف انتهاكاتهم واعتداءاتهم، غير عابئين بالمواقف الغربية، النادرة، المندّدة بهم. يواصلون الاستيطان، ويسعون إلى القضاء على كل وجود فلسطيني في الداخل بقرار "إسقاط الجنسية".

بالنسبة إلى الإسرائيليين، "من يتحكّم بالماضي يتحكّم بالمستقبل. ومن يتحكّم بالحاضر يتحكّم بالماضي"، حسبما دوّن جورج أورويل في كتاب "1984". الماضي هنا، بشكله الحالي، فلسطيني بشكل فاقع، ولا يمكن إطاحته بكبسة زرّ، ولا بأكثر من سبعة عقود من الإجحاف والظلم. لا حلّ أمام الاحتلال سوى تغيير الماضي، عبر صناعته في الوقت الحاضر. تكثيف عمليات الاستيطان وإسكان اليهود من أصقاع العالم فيها، يسمح، مع الوقت، في نشأة جيلٍ في المستوطنات، يبقى محفّزاً للدفاع عنها باعتبارها "مسقط رأسه"، غير أن الاحتلال سها عن باله أن المستوطنات السابقة، والمبنيّة في العقود السالفة، لم تُنهِ وجوداً فلسطينياً أصيلاً في هذه البقعة من شرق البحر الأبيض المتوسط، بل ساهمت في إبقاء فعل المقاومة مستمرّاً حتى إشعار آخر. مقاومة لم تؤجّجها ولم تُنشئها ولم تؤطّرها أي جهة إقليمية أو عربية أو دولية، بل وحدهم الفلسطينيون من قاموا بذلك. ليس المقصود هنا القيادات الفلسطينية، التي يبقى العديد منها كأي طبقة سياسية انتهازية في الكوكب بأسره، لا في العالم العربي فحسب. المقصود هم الناس، المزروعون في أرضهم، ويحيون مقاومة على طريقتهم.

التحكّم بالحاضر لصناعة الماضي لدى الاحتلال، يُجابَه بتمسّك الفلسطينيين بماضيهم، يصنعون به مستقبلاً، ربما لا يجدون حالياً أنه لصالحهم، لكنهم يقاتلون لترسيخ أحقيتهم في أرضهم. هنا، لا يعمل الاحتلال سوى على محاولة ضرب الديمغرافيا الفلسطينية، القادرة وفقاً لنسقِ طبيعي أن تنمو بقوة خلال حقبة قصيرة. قانون "إسقاط الجنسية" خطوة أخرى من خطوات التفكير الإسرائيلي في كيفية إبعاد فلسطينيي الداخل. لم يقلها القانون صراحةً في القراءات الثلاث للكنيست، الأربعاء الماضي، بل قالها سابقاً أفيغدور ليبرمان ورحبعام زئيفي وديفيد بن غوريون ويسرائيل كينغ، وغيرهم كثيرون. لم يتفوّه هؤلاء بغير القواعد الأساسية التي أرست الاحتلال في فلسطين المحتلة: "يهودية الدولة".

بالتالي، لا يُمكن فهم طبيعة الاحتلال إلا باسم هذا المبدأ العنصري. ولا يُمكن تعليل أو تبرير أي قانون مماثل لقانون "إسقاط الجنسية" بأي طابع قانوني. الفكرة جليّة: الإسرائيليون يتحججون بالعمليات الفلسطينية لمحاولة التخلص من فلسطينيي الداخل.

اليوم اسم الحرب الديمغرافية هو "إسقاط الجنسية" و"تكثيف الاستيطان" و"القدس عاصمة أبدية لإسرائيل" و"مشروع برافر" وغيرها، وغداً ستتغيّر شعارات هذه الحرب، غير أن النقطة الأهم لدى الاحتلال عجزه عن تأمين بديل ديمغرافي لإسكانه في المستوطنات، وكأن الفلاشا الإثيوبيين ويهود الاتحاد السوفييتي كانوا من أواخر أجيال "الهجرة الجماعية إلى أرض الميعاد"، بل إن العديد منهم، ومن فئات يهودية أخرى، قاموا بهجرة معاكسة إلى دول غربية، في السنوات الـ30 الماضية. ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، يعلم ذلك جيداً.

في الوقت الحالي، يُمكن لأي إنسان وضع نفسه مكان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. في أقلّ من عامين، انتقل من شخص أشعل عدوانا إسرائيليا في مايو/ أيار 2021 بسبب اقتحامه حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، إلى شخص يسعى إلى التحوّل إلى "بطل قومي" لدى اليهود، وكأنه "المنقذ المُنتظر" لمعالجة "المشكلة" الديمغرافية. غير أنه بعد فترة، يوم أو اثنين أو عشر أو سنوات، سيستيقظ شخص فلسطيني ويواصل قتاله اليومي، فيما سيكون بن غفير خارج وزارته ودائرة صنع القرار وعاجزاً عن فهم حقيقة "فشله" في تحقيق أهداف بن غوريون.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".