الدفاتر القديمة
في جلسةٍ حميمةٍ ضمت مجموعة سيدات من فئات عمرية مختلفة وخلفيات ثقافية وظروف اجتماعية متنوعة، دار حوار طويل في العلاقات العاطفية والعلاقات الإنسانية بالعموم، وقد اتفق الجميع على أنها أصبحت معقدة وملتبسة، طغت عليها سمات الأنانية والغيرة والحقد والكراهية، وأن الحياة كانت أجمل وأكثر بساطة في السابق. وفي إجابة عن سؤال افتراضي طرحته إحداهن عن العلاقة بالماضي، وما إذا كنّ سيتّخذن القرارات نفسها في ما لو عاد بهن الزمن، مزوّدات بالمحصلة المعرفية الراهنة التي توصلن إليها بعد عمر من التجارب والإنجازات والإخفاقات. اعتبرت السيدات أنّ السؤال الافتراضي مخادع، وينطوي على مكر، بل سيجبرهن على مواجهة الدفاتر القديمة المنسية، بحلوّها ومرّها، بلحظات الفخر والندم، والضعف والقوة والفرح والحزن والفشل والنجاح. رفضت بعضهن الإجابة عن سؤال موجع، لن يثير في الأذهان سوى الأسى. ساد صمت، قبل أن يواصلن الحوار.
تفاوتت الإجابات، بطبيعة الحال، بحسب شخصية كل منهن، وإن اشتركن في حالة خيبة الأمل والإحباط لدى أكثرهن. قالت المطلّقة: كيف لي أن أندم على زواج، وقد رزقت أبناءً هم الأغلى في حياتي. من دون وجودهم ستفقد الاشياء معناها. لا يمكنني تخيل يوم يمرّ من دون أن أنهمك في تفاصيلهم، دراستهم، وظائفهم، زيجاتهم. أمومتي لهم أهم إنجازاتي، وحتى لو عاد بي الزمن سأنخرط في الزواج الفاشل نفسه، كي أحظى بالأبناء أنفسهم. قد يبدو أنني أزاود بعض الشيء، لكنها الحقيقة. وقد تقلن إنني أبالغ في إلغاء نفسي، وفي تجاهل رغباتي وطموحاتي وأحلامي، لكن ما ترونه ظلماً لذاتي هو في الواقع المصدر الوحيد لسعادتي. لذا سأكرّره حرفياً من دون أدنى تردّد.
قالت العزباء الأربعينية: نعم، لو أتيحت لي فرصة كونية كهذه، سأغير كل شيء، سأعيد رسم حياتي، لو تسنّى لي ذلك. لن أسمح لأي كائن باستغلال طيبة قلبي ورهافة مشاعري، تحت أي مسمّى. لن أندفع باتجاه الآخرين قبل التيقن من حسن نياتهم. لن أعطي من دون حساب. سأتروّى جيداً قبل أن أمنح ثقتي لأحد، وسأخضع كلّ تفصيلٍ في حياتي لميزان العقل. سأتعلم المداهنة والمواربة والغموض والتورية. سألقي بشخصيتي الواضحة والمباشرة في صفيحة القمامة، وسأتقمص شخصيةً أكثر ذكاء ودراية، تتقن إخفاء أحاسيس الحب الحقيقية والتظاهر بالبرود والعجرفة، كي أوقع الشاب الذي عشقته بكلّ حمق بحبائلي، وأجعله يلهث حتى يتقدّم لخطبتي، متوهماً أنّه حصل على الجائزة الكبرى، من دون أن يدرك أنّه الطريدة السهلة التي نلتها بدهائي وحنكتي.
قالت المتدينة: السؤال غير جائز شرعاً، لكونه يتضمّن لعبة بالمصائر، وهي مقدّرة في اللوح المحفوظ بمشيئة الرحمن، ولا يُستحسن أن يتجه التفكير إلى ذلك المدى الذي يطرح سؤال الإرادة والتخيير والتسيير.
قالت الوجودية الفوضوية: هذا سؤال عبثي، لا جدوى من طرحه، ولن يفضي إلّا إلى تفتيق المواجع والأحزان. لو عاد بي الزمن، لرغبت في ألّا أكون أصلاً. أن أتجنّب هذا العبء الوجودي الكبير الذي لم أختره، ولا أرغب فيه من حيث المبدأ. استغفرت السيدة المتديّنة قائلة: لا رادّ لقضاء الله، يا عزيزتي. علا ضجيج السيدات اللواتي انخرطن في نقاشاتٍ فرديةٍ حادّة حول خياراتهن في الحياة، وحول العلاقة بالماضي. هل ثمّة حكمة في اتخاذ قطيعة نهائية معه لصالح اللحظة الراهنة، كي نمضي باتجاه المستقبل بخفة وحرية، من دون التلفت نحو الوراء، أم نتصالح مع ماضينا بكل ما فيه، كي نواجه العالم أصحاء نفسياً متوازنين عقلياً، نمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة.
أسئلة كثيرة وصعبة تحتمل أكثر من إجابة.