الدبلوماسية ومتلازمة نزار قباني
(1)
من الطريف أن يتذكّر القرّاء كيف تقدّم شاعر عربي كبير، هـو الرّاحل نزار قباني، باسـتقالة مُسبّبة لوزارة خارجية بلاده، وفي وقفة صادقة مع النفس، مفارقاً بعدها مهنته الدبلوماسية عام 1966، وهو في إسبانيا. كان ذلك فراقا ما بعده لقاء إلا في بعض قصائده التي سارت بها الرّكبان، وتوّجته شاعراً عربياً، ملأ الدنيا وشغل الناس، بمثلما فعل أبو الطيب المتنبي. ما أصدق لسان نزار، وهو يقول لحظة تقديم اسـتقالته، وقد نقلتها من مقدّمة كتاب سمر الضوي "روائع نزار قباني" (2003)، "قدّمت استقالتي لأتفرّغ نهائيا للشعر، لأنني كنت أشعر بازدواجية مرعبة في داخلي تمنعني من ممارسة حريتي بشكلٍ مطلق، لذلك تفرّغتُ للشعر وحده".
وما أقدم الشاعر نزار على تلك الخطوة إلا لتقديره متطلبّات المهنة الدبلوماسية، وعظم مسؤولياتها ومهامّها، مما تحكمه ضوابط وتقاليد مقيدة، تعزّزت عبر ممارساتٍ رسختْ قبل مئات السنين. وما توافق المجتمع الدولي على اتفاقيتي فيينا، الأولى للعلاقات الدبلوماسية والأخرى للعلاقات القنصلية، وذلك في 1961، واللتين وقعتا بعد نحو عقد ونصف العقد بعد سنوات الحرب العالمية الثانية، بهدف تحديد ضوابط العلاقات الدولية بين الدول، والتي تعود أسسها إلى سـنوات قديمة من القرن التاسع عشر الميلادي.
(2)
غير أن إرسال المبعوثين والرّسل وتكليفهم بحمل رسائل الأنبياء والملوك والرؤساء، والتعبير بألسنتهم، صار سُـنّة جرتْ منذ التاريخ القـديم، غير أن التطوّر الذي لحق بهذه الممارسة، طاف بالتجربة الإنسانية عبر سنوات، بل عبر عقود طويلة، حتى وصلـت، في زماننا الحاضر، إلى تقنين تلك الممارسات الدبلوماسية والقنصلية في اتفاقياتٍ ذات طابع دولي تمثل في اتفاقيتي فيينا الوارد ذكرهما. ثم انداحت ثورة المعلوماتية وتجليات العولمة في كل مظاهر الحياة. وهكذا لحق تبدل لازم في طبيعة أساليب (ووسائل) التواصل بين الشعوب والبلدان.
لم يعد الدبلوماسي رسولا يحمل رسالة، بل تضاعف دوره من ناصح محايد إلى لاعبٍ يتولّى دورا في تنفيذ السياسات
وهكذا ما أن بدأت بشريات ثورة المعلوماتية والتعامل الرقمي حتى شمل ذلك تبدّلا في الممارسات الدبلوماسية، ليس فيما بين الحكومات وحدها، بل فيما بين الأفراد والمجتمعات، فصار للتواصل الاجتماعي وجود محسوس وخطير على كل مستويات التعامل البشري. أما الدبلوماسية فقد لحقت بطبيعتها تبدّلات وتحوّلات، إذ لم يعد الدبلوماسي رسولا يحمل رسالة، بل تضاعف دوره من ناصح محايد إلى لاعبٍ يتولّى دورا في تنفيذ السياسات. ولك أن تنظر في التجربة الرئاسية لرئيس الولايات المتحدة السابق، دونالد ترامب، وكيف استسهل إدارة سياساته ومواقفها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا ميله لعرض تغريداته الخطيرة عبر "تويتر".
(3)
ولعل أوضح مثال، وهو من أول الأمثلة في صيف 1990، تردّد ما شاع أن السفيرة الأميركية المثيرة للجدل، والتي التقت في بغداد الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، أنها أوحت له أن الإدارة الأميركية ربما تغض الطرف إن أقدم العراق على غزو دولة الكويت. لقد لعبت تلك السفيرة دورا، عن وعي وربما من دونه، في استدراج القيادة العراقية في تلكم السنوات، إلى فخٍ منصوبٍ ومعدٍّ له بحذقٍ وذكاءٍ. بعد أن وقعت الكارثة، كانت الإدارة الأميركية أول من قاد حملة تأديب النظام العراقي. لم تكن تلك السفيرة الأميركية محض دبلوماسية تؤدّي مهمة من يحمل رسالة، بل هي كانت مشاركة بفاعلية في تنفيذ خطّة تأديب العراق في تلكم السنوات.
نشهد دوراً جديداً يجد فيه الدبلوماسي نفـسه، وهي تضطرب بصورةٍ، وصفهـا نزار قباني، حين قدّم استقالته من مهنته الدبلوماسية، بأنها مرعبة
ولكأنَّ تأديب العراق لم يكتمل بما يرضي الطامعين في القضاء عليه بالصورة المرجوّة، إذ تمَّ ابتداع خطّة ثانية لاصطياده، قوامها اتهامه بامتلاك أسلحة للدمار الشامل، كانت كافية لتدمير العراق دمارا شاملاً ومبرما. انطلت الأكذوبة على بعضهم فصـدّقها، وتردّد آخرون غيرهم في تصديقها. تداول الإعلام الأميركي وسواه، أنباء مصدرها غير واضح، عن استجلاب العراق اليورانيوم ومواد مُشـعّة من دولة أفريقية. من سوء حظ الإدارة الأميركية أنّ سفيراً للولايات المتحدة في تلك الدولة، وهو في تقاعده، حملَ رؤية تخالف رؤية مخابرات حكومته، وأن ضميره لم يمنعه من الإدلاء بما أحـرج الحكومة الأميركية. أنجزت "هوليوود" فيلما سينمائياً جريئاً، لم تحجبه المخابرات الأميركية، وإنْ أعملوا مقصّات المنع فيه، فضَحَ أكذوبة استيراد العراق يورانيوم من تلك الدولة الأفريقية. واجه السفير المتقاعد الذي أرضى ضميره، ولم يرضِ ضمير حكومة بلاده، لوماً مضاعفا منها. وإلى ذلك، لم يتحمّل المستشار الإعلامي للرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في البيت الأبيض، وزر تلك الأكذوبة، فقدّم استقالته هوَ الآخر.
(4)
خلاصة الأمر الذي يعنينا أنّ ذلك الدبلوماسي المهني لم يعد هو الناصح البعيد عن صياغات القرار السياسي أو البريء غير المتورّط من تبعات تنفيذ ذلك القرار. إننا نشهد، كما يتضح، دوراً جديداً يجد فيه الدبلوماسي نفسه، وهي تضطرب بصورةٍ، وصفهـا نزار قباني، حين قدّم استقالته من مهنته الدبلوماسية، بأنها مرعبة.
تلك متلازمة مرضية تزدوج فيها المعايير الأخلاقية بتناقضاتٍ تفرضها مهـام المهنة الدبلوماسية وأدوارها، إذ يجد الدبلوماسي نفسَه يقوم بمهمة دبلوماســية من دون الاقتناع التام بجدواها، فيضطرّ إلى التظاهر بما يشبه النفاق، فيكون شيطانا أخرس، أو أن يُرضي ضميره فيتقدم باستقالته. إنها "متلازمة نزار قباني"، إن قبلتم التوصيف.
الشفافية ومقتضيات المصداقية هما ممّا ضاعف من تبعات تلك المتلازمة، وكلها أمور كأنها الدّم الجديد الذي أفرزته الثورة الرّقمية واندياح المعلوماتية، فخالط الشرايين القديمة، وضخّ روحاً جديدا وتحولات كاسحة في المهنة الدبلوماسية.