الدار البيضاء 1981 في فيلم ورواية
أشاهدُ فيلم المغربيّة أسماء المدير "كذب أبيض" (آخر عروض "قُمرة" في نسخته العاشرة، قبيْل رمضان) أياماً بعد مطالعتي رواية "مربّع الغرباء 1981" (دار الفنك، الدار البيضاء، 2023)، للصديق عبد القادر الشاوي، فتكون مصادفةً لافتةً، أنهما، الفيلم والرواية، منشغلان في الحدث نفسه، انتفاضة 20 يونيو 1981 في الدار البيضاء، مع إضرابٍ عامٍّ دُعي إليه احتجاجاً على رفع الأسعار، وواجهتهما السلطة بعُسفٍ شديدٍ، قضى جرّاءه نحو ألف قتيل، جرى الحديثُ تالياً عن دفن عددٍ منهم في مقبرةٍ جماعيةٍ مجهولة، كما اعتُقل آلافٌ أمضى بعضُهم سنواتٍ طويلةً في ظروفٍ شديدة السوء في المعتقلات. ليس ثمّة أيُّ تشابهٍ أو التقاءٍ بين الفيلم السينمائي الذي ينهض، بداهةً، على الصورة، والرواية التي تنبني على السرد المحكيّ المقروء، باستثناء أمرٍ مركزيٍّ، استعادة تلك الأحداث من زمنها إلى لحظة تذكّرٍ راهنة، فالشخصياتُ في العمل الذي رأيناه على الشاشة في صالة متحف الفن الإسلامي في الدوحة، وهم والدة المخرجة ووالدتُها وجدّتها وآخرون، يأتون بتلك الأحداث إلى المُشاهد، بتشخيصٍ لها، بالتنقيب عن تفاصيلها، بالتقاطاتٍ تضيء عليها. والشخصيات في الرواية، وهم أربعة رجال وامرأة، يفعلون الشيء نفسه، بكيفيّاتٍ أخرى، منها النجوى مع النفس والاشتباك مع الحاضر موصولاً بالماضي. وبذلك نصير أمام زاويتي نظر فنّيتين إلى حدثٍ واحد، أمام فعليْن إبداعيين، يتمايز الجهدُ في كلّ منهما، حيث مساحاتٌ للتخييل واسعة، يتضافر فيها التوثيقيٌّ والشخصيٌّ والذاتيُّ والعام، عمّا لا يتوفّر للمؤرّخين المُلزمين بالتحقّق من الحقيقي، والنأي عن الذاتي والشخصي. وفي الوُسع أن يقول واحدُنا إن الوعي بالماضي، بإطلالةٍ من الحاضر عليه، هو الجوهريّ في الذي نشدته الشابّة الثلاثينية أسماء المدير في الفيلم، الحاذق حقّاً، والسبعينيّ عبد القادر الشاوي في روايته، الشائقة حقّاً.
الطرافةُ الحاضرةُ في مقاطع حوارية غير قليلةٍ في "كذب أبيض" تضيف بعداً ظاهراً إلى مقادير عاليةٍ من الجاذبيّة العالية في هذا الفيلم الذي تبدّت فيه شحناتٌ من الأسى والألم متواشجةً مع الذي ابتكرته المخرجة، عندما عمَدَت إلى توظيف الدّمى والعرائس والعرض المسرحي والمجسّمات الخشبية واللوحات والصور بشكلٍ يكاد ينزع عن الفيلم "وثائقيّتَه"، وهو الذي لا يأتي بممثلين محترفين لصنع عملٍ سينمائيٍّ روائي، وإنما يجعل الشهود يحكون، ويتحدّثون، بمن فيهم الجدّة التي تحتفظ بصورة الحسن الثاني، ولا تسمح بأن يمسّه أيُّ كلامٍ عنه، ويُغضبها أي حديثٍ عن الذي صار في ذلك اليوم البعيد. وفي داخل بيت الأسرة وحجراته وصالاته ومطبخه، تسعف الحركة فيه في تظهير تنويعاتٍ مشهديةٍ نابهة، دلّت على قدراتٍ فائقةٍ لدى المخرجة التي استعانت أيضاً بشهادات الجيران، واستقدمت بعض ذوي الضحايا إلى حافلة. وكم هو بالغُ الجمال، وكم فاتنٌ، المشهد الذي شخّص فيه راوٍ، أظنّه والد المخرجة (عذراً للنسيان)، وهو يحرّك الدّمى في نموذجٍ من زنزانةٍ بلا نوافذ، كأنها التي أمضى فيها 16 عاما. يحكي ويمثّل المشهد مع زميليْن كانا معتقليْن، عن تعذيبٍ تعرّضوا له. ومع ألوان البرتقالي والأزرق والأحمر التي تتناوبُ في صور متتابعة في الفيلم، سيّما مع الدّمى في الديكور المغلق والصور الثابتة والمتحرّكة، ومع صور نراها على الجدران، ومع حكاياتٍ موجزةٍ يتواتر سردُها، ومع سرٍّ يجري الحديثُ عنه، يتعلّق بالفتاة فاطمة التي قضت قتيلةً في الأحداث، في الحارة نفسها حيث منزل عائلة أسماء، يُراد أن يكون ما جرى لها سرّاً، ومع صورةٍ واحدةٍ يتيمةٍ لقتلى في شارع في الدار البيضاء في ذلك النهار الدامي، ومع أغنياتٍ ل"ناس الغيوان"، مع هذا كلّه وكثيرٍ غيره، تصنع أسماء المدير فيلماً استحقّ الجائزة الذهبية لمهرجان مراكش السينمائي الدولي، ثم الإعجاب به الذي كنّا عليه بعد مشاهدتنا له.
المشهديات المحكيّة في رواية "مربّع الغرباء 1981" من قبيل "الجثث كانت تصل تباعاً، البعضُ مكفّنٌ والبعض الآخر في اللباس الذي قتل به وفيه" و"يومان حارّان مشهودان داميان تواجه فيهما فريقان: عُزّل قتلوا، ومدجّجون بالسلاح الفتّاك واللغة الشاتمة الشامتة ضربوا"، و"الشارع فضّاحٌ كذلك باعتباره مكان الطلقات، مرقدُ الجثث، فضاء الصراخ والأنين، فلا عجب أن يصبح فيه القتل شريعة"... تبدو المشهديّات المحكيّة مثل هذه خلفياتٍ تؤثّث لسردٍ يتناوب بين أزمنةٍ وشخوصٍ وأمكنة، لا عن الذي صار في الدار البيضاء فقط، بل أيضاَ عن راهن يسارٍ مجهضٍ خائبٍ في المغرب، عن مجلسٍ استشاريٍّ معنيٍّ بحقوق الإنسان، ضمن تجربة "الإنصاف والمصالحة" التي قامت في المغرب ليبرَأ من جروح سنوات الرصاص تلك، مما كان دامياً في ذينك اليوميْن في الدار البيضاء، وفي غيرهما. يبدو فعلُ الحكي عن هذا كله، وغيره، مركزياً في الرواية، ليكون فعلَ انتصارٍ على الزيف وإرادة المحو، فعل كشفٍ وانكشافٍ للعميق والبعيد في الخاصّ والعام، في مغربٍ ما زال أهلوه ينشدُون العدالة والإنصاف.