الخليج "الهش" ومأزق الحوثية مجدّداً
نشر صاحب هذه السطور مقالة في 11 سبتمبر/ أيلول 2014 بعنوان "دول الخليج ومأزق الحوثية"، قبيل سقوط صنعاء، بأيام قليلة، بيد مليشيات الحوثي الانقلابية المدعومة إيرانياً، تلك اللحظة المفصلية ليس في تاريخ اليمن فحسب، وإنما المنطقة العربية كلها، وما آلت إليه الأحداث تباعا جرّاء هذا الحدث الذي أسقط منظومة الأمن القومي للجزيرة العربية كلها.
اليوم، وبعد تسع سنوات، أقول إن الحوثية لم تعد مجرّد مأزق أمني وتهديد متوهم، وإنما هي تهديد وجودي للمنطقة كلها، من خليج عدن وبحر العرب جنوبا وحتى بادية الشام شمالاً، ومن باب المندب والبحر الأحمر غربا حتى مضيق هرمز والخليج العربي شرقا، بعد أن كانت مجرّد مليشيات غير نظامية تسهل مواجهتها والقضاء عليها، ها هي اليوم بعد سبع سنوات من الحرب "مخفية الأهداف" التي قادتها بعض دول الخليج، وما عُرفت بدول التحالف العربي بقيادة العربية السعودية، لاستعادة الشرعية اليمنية، بتلك الطريقة المخاتلة التي يعتقد عرّابوها أنهم تمكّنوا بها من التحكّم باليمن والسيطرة عليه وهماً.
رفعوا شعار استعادة الشرعية اليمنية، وأعلنوا حربا باسمها، لكنها كانت، على أرض الواقع، حرباً لضرب شرعية اليمنيين ودولتهم، وضدا لأمن الخليجي ذاته، لأنها حرب من أضمروا شراً لليمن الكبير، الذي يحملون أوهام الخوف منه، وهو الذي لم يكن يوما إلا سندا وداعما لهم على مرّ التاريخ وامتدادا ثقافيا ودينيا ووشائجياً لهم، فأضمروا الخيانة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وها هي النتيجة واضحة جلية اليوم بهذا القدر من الجلاء والوضوح أنهم أصبحوا عاجزين ومنكشفين أكثر من أي وقت مضى.
يثبت ما يجري في اليمن أن استراتجية الصناديق السيادية في طريقها إلى الفشل، إن لم تكن قد فشلت فعلا
جاءوا لمحاربة مليشيات الحوثي المدعومة إيرانياً، وبعد سبع سنوات، تكشّف المشهد عن ضرب الشرعية اليمنية، وتفكيك دولتها وجغرافيتها، وتمكين المليشيات الانقلابية التي غدت اليوم أقوى من لحظة انطلاقها، وغدت تُقارعهم وجها لوجه ندّا لهم، بعد أن كانت مجرّد مليشيات يسهل ضربها وكسرها بأقل وقت وجهد ممكن، لكنها اليوم ربما غدت أقوى منهم، فقد مكر التاريخ بهم، حينما أرادوا أن يمكروا باليمن، وبحلفائهم اليمنيين الصادقين معهم.
لسنا بصدد الشماتة بأحد هنا، فالخاسر الأكبر من كل ما يجري، هم نحن معشر العرب جميعاً، دولا وشعوبا وحكومات. والرابح الأول والأخير من كل هذه السياسات العبثية المستمرّة بالمشهد اليمني إيران ومليشياتها، والتي يمضي مشروعها على قدم وساق وعلى أكمل وجه ممكن، وبأقل التكاليف والإمكانات، بل وبإمكانات خصومها الذين قدّمت سياساتهم الكيدية خدماتٍ جليلةً لإيران ومشروعها أكثر مما قدّمت إيران لنفسها.
قامت استراتجية بعض الأشقاء العرب في الخليج على فرضية أن الصناديق السيادية وحدها قادرة على أن تحمي هذه البلدان وتحافظ عليها، من دون حاجة لمنظومة أمن قومي عربي موحّد، هذه الفرضية التي أثبتت فشلها وعجزها التام أمام مسيّرات إيران ومليشياتها الطائفية، تلك المسيّرات التي تمتلئ بها أسواق التكنولوجيا الصينية، ولا تساوي شيئا أمام مشتريات السلاح المهول لدول الخليج من سوق السلاح العالمي.
لقد أثبتت استراتيجية الصناديق السيادية بمستشاريها أنها لا يمكن أن تحمي دولةً أو حتى أن توفر بوليصات التأمين، لمجتمعات يمثل التيار الكهربائي عصب الحياة فيها، التيار الكهربائي الذي لا يمكن حماية منشآته أمام مسيّرة إيرانية تزوّد بها مليشياتها، ولا تتجاوز قيمتها ألف دولار، فكيف إذا صارت هذه المسيّرة صاروخا بالستياً تمتلكه مليشياتٌ لا تعير أي معنىً للأمن والجوار والقوانين والأعراف الدولية.
يثبت ما يجري في اليمن أن استراتجية الصناديق السيادية في طريقها إلى الفشل، إن لم تكن قد فشلت فعلا، وأن أمن هذه المنطقة أصبح في خبر كان، فاليمن الذي كان يمثل خط دفاعهم الأخير، وعمقهم الاستراتيجي والتاريخي والجغرافي والمذهبي والديني، العمق الذي استندت إليه كل الإمبراطوريات الإسلامية، فجابت بهم مشارق الأرض ومغاربها، العمق الذي حسم معارك البصرة والفاو وقادسية صدّام في ثمانينات القرن الماضي.
جاءوا لمحاربة مليشيات الحوثي المدعومة إيرانياً، وبعد سبع سنوات، تكشّف المشهد عن ضرب الشرعية اليمنية، وتفكيك دولتها وجغرافيتها
هذا العمق اليمني لكل الأقطار العربية، وفي القلب منها دول مجلس التعاون الخليجي، حيث بفضل اليمنيين وسواعدهم وعقولهم تم تشييد كل هذه الأبراج في الخليج، وشٌقت الطرق والجسور، ودبّت الحياة في هذه المجتمعات بفعلهم، وليس بفعل الوفرة النفطية وحدها، فالحياة هي الإنسان الذي صنع ذلك كله، وليس المال وحده، فالإنسان اليمني الذي وجد به حكام الخليج الأوائل ضالّتهم المنشودة، فشيدوا بهم كل هذه الإنجازات التي ترونها في خليج اليوم، ولم يتآمروا عليهم، مثلما يفعل الأحفاد اليوم من بعض حكام الخليج الجدد.
لا تُبنى الدول بالمال وحده، فالمال يمكنه أن يبني شركة تجارية عملاقة وعظيمة، لا دولة، فالدول لا يتمّ بناؤها إلا بالعلم لا بالتنجيم، وبالمؤسّسية لا بالفردية، وبالخبراء وصناع القرار لا بالأمزجة الفردية، وقبل هذا كله، تُبنى الدول العدل والقسط ومراعاة مصالح الناس والحفاظ عليها، والناس هنا مجموع الناس حتى من هم خارج أسوار دولتك، فكيف وهم من قوميتك وأرومتك ودينك.
ما يجري اليوم شيء عبثي، وناقوس خطر لم يعد في وسع أحد تجاهله، لأن هذا الناقوس يدقّ منذ فترة طويلة، محذّرا مما ينتظر هذه المنطقة من مؤامرات تُحاك ضدها، وإن أدوات هذه المؤامرة هم أبناء هذه المنطقة أنفسهم، وكل جماعة تكيد لأختها ظنّا منها أنها في منأى عن تداعيات المكر والخيانة التي تُحاك ضد الجميع، من بغداد مرورا بدمشق وبيروت وصنعاء وطرابلس والقاهرة وتونس والخرطوم وكل بلاد العرب التي تمثل هدفا لكل مشاريع التمزيق الطائفية والاستعمارية على حد سواء.
وما لم يتم تدارك هذا المشهد المتهالك عربياً، وفي أسرع وقت ممكن، بقليل من الحكمة والدهاء، فإن النهاية واضحة للجميع، وماثلةٌ أمام أعينهم، وهي إسقاط المنطقة كلها وإبقاؤها مرتعا للمليشيات الطائفية والعشائرية وأمراء الحرب والطوائف وإعادة المنطقة العربية كلها إلى ما قبل قيام الدولة العربية الوطنية القُطرية الحديثة، دولة ما بعد المستعمر، والمشهد المصغر والنموذج الماثل لكل هذا المخطط اليوم واضح وجلي للجميع في العراق واليمن ولبنان تحديدا وبقية المنطقة في الطريق إليها لاحقاً.
ما يجري اليوم عبثي، وناقوس خطر لم يعد في وسع أحد تجاهله، لأن هذا الناقوس يدقّ منذ فترة طويلة
لم يعد ما يقال هنا مجرّد تعبير عن نوبة تشاؤم قاتلة، لكنه الواقع المعيش والمشاهد اليوم، من سقوط الدولة العربية الوطنية، وما نشأ على ركامها من دويلات الطوائف وأمراء الحرب، الذين حوّلوا هذه المجتمعات إلى كانتونات متصارعة، يتسيّدها الفقر والجهل والحرب والمرض والخوف والتخلف والأمية والخرافات، وعودة حروب الماضي كله من داحس والغبراء وصولاً حتى صفين والجمل وغيرهما من حروب ما قبل الدولة.
وصلت المنطقة إلى حافّة الهاوية، التي لا يمكن إيقاف ارتطامها في قاع التاريخ إلا بمعجزة. وهذه المعجزة معقود مجيئها وتخليقها بصحوة ضمير عربي حقيقي، يرفع الصوت عالياً، ويسعى بكل قوة إلى إيقاف هذا العبث في كل شيء، وفي المقدمة منه تخنيث ضمير الأمة وتمييعه بمشاريع الخلاص الفردية المتوهّمة لهذه الدولة أو تلك بمعزل عن أمن أراضي كل قطر عربي واستقرارها ووحدتها وسلامتها، والحفاظ على نسيجها العربي الواحد من التمزّق والتشظي أكثر مما هو كائن اليوم، فهل سيقيّض لنا الله نخبةً عربيةً تعي ما يدور ومآلاته الكارثية على المنطقة العربية كلها، لتسارع إلى اجتراح حلول إنقاذية إسعافية سريعة وعاجلة، علها تُنقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، ولات حين مناص.