الخلافات الجزائرية المغربية إلى أين؟
ما تكاد الخلافات الجزائرية المغربية تخبو تارّة حتى تستعر نارها مرّات كثيرة. علاقات فيها من القلق ما يؤدّي إلى الإفلاس السياسي، في غياب مشروع تنموي موحد لرقعة جغرافية منحتها الطبيعة كل أنواع الطيبات، والموارد، فسكبت ماءها عنوة، وذهبت وهي عطشى، تنقب عن معادن ثمينة في أرض قاحلة. أدارت ظهرها للتاريخ المشترك وللجغرافيا الواحدة، ولجميع سبل العيش المشترك. تضاعفت بين الإخوة أسباب الشحناء والبغضاء، وأصبحت نذر الشقاق، وأحيانا النزاع، تصل إلى مدى بعيد، من دون أن تجد لجموحها لاجما.
ما يثير في الموضوع، ويبعث على الاستفزاز تخلي النخبة والمثقفين عن الخوض إيجابيا في تلك العلاقات، لرقع ما بلي منها، وتجاوز ما سقط من متاعها. تخلت النخبة عن واجباتها في جسر العلاقة من جديد، وتركتها في موجٍ متلاطم، تتجاذبه أهواء العامة ومدّعي الحقائق والمغرضين من منظري السلطة التي وجدت من الطرفين من ينفخ في الرماد.
شاهدت ما بثته قناة الشروق الجزائرية الخاصة، ووقفت على خطورته. مكمن الخطورة أن العرض الذي قدمته القناة في برنامجها الحواري لا يرقى إلى الأداء الفني الساخر، الذي عادة ما تقدّمه قنوات أجنبية في برامجها السياسية الساخرة، فالتلفزيونات الغربية متمكّنة في مثل هذه البرامج، تمتلك أدوات فنية وإبداعية يقلّ نظيرها في الوطن العربي، ثم أن أدواتها الثقافية والفكرية في ممارسة الديمقراطية تجعلها مؤهلة لذلك.
قطعت جسور التلاقي، وتكاد يد العبث تعمد إلى تدمير ما بقي منها يقاوم من أجل مصلحة الشعبين والبلدين
كل ما في أمر ما بثته "الشروق" أنه كان سخرية غير لائقة، أخذت من شخصية ملك المغرب، محمد السادس، (صورته في هيئة دمية) موضوعا للتنابز والتهكم. لم تكن القناة التلفزيونية وحيدة في خوض غمار العراك الإعلامي المتدنّي، سبقتها صحف مغربية تهكمت كاريكاتوريا على الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وصوّرته على هيئات مختلفة لا يرضاها. دخلت ميدان العراك مواقع إلكترونية، وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، من كلا البلدين. وجوه معروفة، وفنانون، وناشطون، كل واحد منهم كان يدّعي شوقا لليلاه.
ارتفع منسوب الشقاق السياسي إلى مستوياتٍ لا يمكن التنبؤ بنتائجها السلبية على علاقات البلدين المهزوزة منذ فترة طويلة. مكمن الخطر أيضا أنها تدفع باتجاه تجييش مشاعر الاحتقان بين البلدين، والشعبين، تغذّيها أوساط لا تحب الخير للبلدين والشعبين معا، وتنشر البغضاء كالنار في الهشيم، كتابات متعجّلة وغير مسؤولة في البلدين عبر وسائط الاتصال.
في ضجيج جعجعة الاتهامات والردود، والسقوط أيضا، تراجعت أو تكاد أصوات العقل والمودّة. طغى عليها خطاب الكراهية والتحريض الإعلاميين، من الطرفين ومنذ سنوات. عقمت معه القنوات الرسمية في إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم. وأطلقت، في المقابل، العقال لحرب كلامية مكشوفة، من الصعب الفصل في حقائقها أو ادّعاءاتها، فلكل واحدة من السلطتين مبرّراتها وحقائقها، وكشوفاتها وخطوطها الحمراء، كما تقولان.
أليس من حق الشعوب أن تحلم بغد أفضل، لو تركت خلافاتها جانباً والتفتت إلى البناء؟
في غبار الخلافات، توارت ذاكرة التاريخ المشترك، وفُرط في صروح المغرب العربي التي بناها جيل الآباء، وضحّى من أجلها بالغالي والنفيس. قطعت جسور التلاقي، وتكاد يد العبث تعمد إلى تدمير ما بقي منها يقاوم من أجل مصلحة الشعبين والبلدين. غاب عن هؤلاء العابثين بمصير المغرب الكبير حقيقة أن الجغرافيا واحدة، فلا الجزائر سترحل ذات يوم، ولا المغرب سيشدّ الرحال إلى وجهة أخرى. لا داعي للحديث عن اللغة والدين والثقافة الشعبية والعادات والتقاليد، فكلها من نوافل القول، ولكن متعجّلي السياسة ونافثي السموم يتناسون ذلك عمدا، حين تختلط المشاعر المشحونة، وتتلاطم الحقائق، في فتنةٍ اختلطت فيها الدسائس، وغاب عنها صوت العقل.
ليس مناطا بالعقلاء من الجزائريين والمغاربة إيجاد حلول لمشكلات البلدين غير المنتهية، والممتدة منذ حرب الرمال، عقب استقلال الجزائر، مرورا بأزمة الصحراء، وصولا إلى غلق الحدود بين البلدين، وحالة الفراق والخصام التي هي عليها حاليا، وأدّت إلى تعطل قطار الاتحاد المغاربي، وعجز هياكله. تعطلت معه مشاريع مشتركة، وذهبت أدراج الرياح، وانتهاء بأزمة معبر الكركرات، وعودة البوليساريو إلى رفع السلاح، واعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء، وقيام علاقات مغربية إسرائيلية. مهمة هؤلاء العقلاء تكمن في معرفة الراهن الدولي، ومعرفة رهانات الحاضر وتطلعات الشعوب، ومحاولة تهدئة الخواطر بين البلدين، وتجاوز عثرات الخلط والتجييش والتعميم، والكفّ عن الاتهامات والاتهامات المضادة، وعدم الخوض في أمور الشعوب الخاصة، واختياراتهم المعيشية. بل مهمتهم التنبيه إلى الإنجازات التي يمكن أن تتحقق للبلدين، لو هدأت الخواطر، وابتعد البلدان عن تنافس إقليمي غير مجد، تمهيدا لتعاون مثمر، ممكن في حال صدقت النيات. قد يكون الحديث عن ذلك التكامل الاقتصادي، والتنموي، مجرد أحلام في الوقت الراهن، ولكن أليس من حق الشعوب أن تحلم بغد أفضل، لو تركت خلافاتها جانبا والتفتت إلى البناء، أو بالأحرى لو تركت السلطات الشعوب لمصيرها المشترك.