الخريطة السّياسية الفرنسية والخطاب العنصري
تشير الخريطة السّياسية الفرنسية، ونحن على بعد ستة أشهر من رئاسيات مجهولة الآفاق، إلى صعود الصوت اليميني العنصري ومحاولة السياسيين والإعلاميين، على حد سواء، استخدامه للمداراة على عمق الأزمة الاقتصادية، في أعقاب الجائحة وتداعيات ذلك، بصفة خاصة، على مكانة فرنسا في النّظام الدّولي، وهو ما ستحاول المقالة التفصيل فيه، مع التّركيز على ظاهرة إريك زمور، الإعلامي السّياسي الذي يحاول إحداث المفاجأة بعد إبراز عمليات سبر الآراء تأثير خطابه العنصري، ووصوله إلى احتمال أن يتقدم، ويتنافس على ما يزيد عن 10% من الوعاء الانتخابي، وفقها، طبعا.
أولى الملاحظات على هذه الخريطة السياسية أنّها رافضة استمرار الرّئيس إيمانويل ماكرون في الرّئاسة لعهدة ثانية، بل هناك شبه إجماع، على المستويين السّياسي والاجتماعي، للتّعبير عن ذلك، حيث إن خرجات (أنشطته أمام الجمهور) الرّئيس تتعرّض، المرّة تلو المرّة، لاستعراض ذلك الرّفض، تراوحت بين صفعةٍ من شخصٍ يميني متطرّف وشعارات، رُفعت قبل أيّام في جنوب فرنسا، تتحدّث كلُّها عن مخاطر حقيقيّة لخسارة ماكرون منصبه، في مارس/ آذار المقبل، أمام خصومه، خصوصا منهم اليمينية المتطرّفة، مارين لوبان، أو من سيخرج من الانتخابات التّمهيدية، على مستوى اليمين، حزب الجمهوريين، حيث هناك عديدون ممّن أعلن رسميا عن ترشّحهم، وبدأوا في إطلاق حملاتهم، على الصّعيد الإعلامي.
تتحدّث عمليّات استطلاعات الآراء، بوصلة تنظيم تلك الحملات الإعلامية ومرجعيّة حركيّة الخريطة السّياسية، عن معركة انتخابية رئاسية قد تنتهي إلى ما شهدته رئاسيات 2017، أي دورة ثانية بين ماكرون ولوبان، لكن بعضا من تلك العمليات الإعلامية لدراسة الرّأي العام وتوجّهاته تدخل متغيراتٍ تتضمّن احتمالات ترشّح بعض الوجوه المعروفة بصناعتها الرأي العام، عبر المنابر الإعلامية، على غرار اليميني المتطرّف إريك زمّور، الذي اعتبرته سلطة الضّبط، في فرنسا، يشارك في النقاش السياسي. وعلى هذا طلبت، رسميا، من قنوات الإعلام، احتساب توقيت أحاديثه، في أفق ترشّحه المحتمل، الأمر الذي قد يخلط أوراق المرشّحين الآخرين، خصوصا منهم اليمينية المتطرّفة مارين لوبان، التّي ستفقد، احتمالا، أصواتا من وعائها الانتخابي، كون إريك زمور ممّن يتحدّثون ضمن أفكارها نفسها (الهوية، التفوّق العرقي، الهجرة، الإسلام، الإرهاب الإسلاموي، كراهية الأجانب، إلخ ...)، وقد يتّجه بعض من أنصار اليمين المتطرّف إلى مناصرته على حساب لوبان.
اليميني المتطرّف إريك زمور تُرشّحه دوائر سياسية لإحداث مفاجأة، وهو من الوجوه الأكثر إثارة للجدل على السّاحتين السّياسية والإعلامية
على مستوى اليسار، الاشتراكي والشّيوعي، إضافة إلى المدافعين عن البيئة أو "الخضر"، هناك مرشّحون محتملون لكن، مع أزمة الاشتراكيين، في الأعوام الأخيرة، وعمليات سبر الآراء التي لا ترى في التيار ثقلا سياسيا، من ناحية، وعوامل شدّة الخلافات الأيديولوجية، غياب الزّعامة والانشقاقات السياسية، من ناحية أخرى، فمن المحتمل أن اليسار لن يكون حضوره مؤثرا، خصوصا أن ماكرون عمل، منذ كان وزيرا في حكومة الرّئيس الفرنسي السّابق هولاند، على خلط أوراق الخريطة السياسية، بإيجاده ضبابية في الرُّؤية بين خطي اليسار واليمين، ما أفقد الاشتراكيين بوصلتهم السّياسيــــــــة والبقية، من ممثّلي ذلك للتيار، إمكانية التّأثير على المشهد السّياسي المقبل، في فرنسا.
ولكن، هذه المرةّ، قد نشهد، كما شهدنا في 2017، عندما صعد ماكرون، من دون قاعدة حزبية، بروزا لوجه ما من اليسار خارج إطار الطّبقة السّياسية، لأن متغير النّضال السّياسي ضمن التيار اليساري، مع ظاهرة السترات الصُّفر، أوجد بعض المتحدّثين السّياسيين المفوّهين وأصحاب الشّعبية، ما قد يغري بعضا منهم بخلط أوراق الخريطة السياسية، ما قد يزيد من بعثرة أصوات اليسار. ولكن، قد تحدث مفاجأة من العيار الثقيل، بدأت بعض عمليات سبر الآراء تروّجها، من دون وضوح اسم بعينه، لتعدّدها حاليا.
على المستوى اليميني، لدى حزب الجمهوريين، يسعى بعض السّياسيين، خصوصا فاليري بيكريس وكزافيي برتراند، الوجهين الأكثر بروزا لدى هذا الحزب، بخطىً حثيثة، نحو بثّ الرّؤى السّياسية في انتظار اكتمال القائمة التي ستتنافس على أصوات المناضلين في انتخاباتٍ تمهيديةٍ، سارع بعضهم، على غرار ما جرى في 2017، إلى تّأكيد أنّها غير مفيدة، لأنها قد تفقد الجمهوريين فرصة الحضور القوي، ربما تحضيرا لأجواء توافق داخل أروقة الحزب على تقديم مرشّح واحد يوحّد صفوف اليمين، ويقضي على احتمالات الصدام، تماما مثل ما حدث بين فيلون وساركوزي، في 2017، وانتهي بفضيحة فساد أخلاقية للوزير الأوّل الفرنسي السّابق فرانسوا فيلون، ما زال اليمين يعاني منها، من ناحية صورة الحزب وانعكاسها لدى الرّأي العام الفرنسي.
دوائر المال والإعلام هي التي تساهم في صنع الوجوه السّياسية، رفعاً لأسهم بعضهم وحطّاً لشأن الآخرين
اليميني المتطرّف إريك زمور تُرشّحه دوائر سياسية لإحداث مفاجأة، وهو من الوجوه الأكثر إثارة للجدل على السّاحتين السّياسية والإعلامية، حيث إنّه، على الرّغم من دعاوى قضائية عديدة مرفوعة ضدّه بسبب آرائه المتطرّفة المعبّرة عن كراهية الأجانب والإسلاموفوبيا، بل دعوته إلى أفكار التّفوّق العرقي والانعزالية لصالح العرق الأبيض، فهو يحوز (أو كان كذلك قبل أن تقرّر سلطة الضّبط منعه من المنبر الإعلامي باعتباره مرشّحا محتملا) على منبر إعلامي يومي على قناة فرنسية معروفة بمناصرتها تلك الأفكار، إلى درجة أنّ السّاحة الإعلامية الفرنسية أصبحت تتحدّث عن بروز ظاهرة القنوات الإخبارية المرتكزة على النقاش وليس الأخبار، حيث إنّ لإريك زمّور ورفقاء له في الدّائرة نفسها من الآراء السّياسية والهوياتية يعملون، على مدار اليوم، في إطار حصص، بالسّاعات، للنقاش حول إشكالات الهوية، الأجانب، الإسلام، الجاليات الأجنبية في فرنسا، إضافة إلى دعواتهم إلى إقامة نظام عالمي يعزل كل ما هو ليس غربيا.
يشكّل هذا المنبر، وغيرُه من المنابر الإعلامية الفرنسية، فرصة لبروز وجوه قد توجّه السّاحة الفرنسية إلى التطرّف أكثر، بقصد الفوز بأصوات الناخبين. ولهذا نرى ارتفاعا في وتيرة التّعبير عن تلك الإشكالات، ومن أفواه سياسيين وإعلاميين لم يكونوا من أصحاب تلك الأفكار، وكأنهم يقولون لمن يسمعهم: نحن مع التسويق السياسي الجديد أينما توجّه نتوجّه، ربحا لأصواتكم وإثباتا لتكيّفنا مع التّغيّرات والتّحولّات السياسية، في فرنسا.
قد تحدث مفاجأة من العيار الثقيل، بدأت عمليات سبر آراء تروّجها، من دون وضوح اسم بعينه، لتعدّدها حالياً
على الرّغم ممّا تقدّم، المعروف، في السّاحة الفرنسية، أنّ دوائر المال والإعلام هي التي تساهم في صنع الوجوه السّياسية، رفعا لأسهم بعضهم وحطّا لشأن الآخرين، وفق معطيات المرحلة. ولهذا فإن الدوائر نفسها التي أدّت إلى صنع رئيس فرنسي، ماكرون، بدون قاعدة حزبية، وهو ما لم يحدث، في العقود الأخيرة، قادرة، مرّة أخرى، خصوصا مع تداعيات الجائحة وأفق تحولّات في النّسق السّياسي والاقتصادي الدُّوليين، على إحداث المفاجأة، وإبراز وجه جديد يفوز برئاسيات 2022.
لكن، مع عمق تلك التّحولّات، على المستويين، الفرنسي والدُّولي، خصوصا على الصّعيد الاقتصادي، تبدو احتمالات التغيير ضعيفة، بالنّظر إلى صعوبة رفع تحدّي تعامل رئيس فرنسي جديد مع الأوضاع الجديدة، وهو ما حدث من قبل، حيث أنّه كلّما حدثت أزمة كان الرّئيس الفرنسي المنتخب صاحب الحظّ الأوفر للفوز بعهدة ثانية، لأنّ الدّوائر المالية والإعلامية لا تريد المخاطرة بمفاجأة سياسية قد تخلط الأوراق، وتُعمّق من وقع الأزمات المتعدّدة والمختلفة (ميتران ثمّ شيراك مع عهدات رئاسية كانت، في الدُّستور، قبل التّعديل، بسبع سنوات، تمّ تخفيضها إلى خمس سنوات في العهدة الثّانية لشيراك).
نتابع، في المغرب العربي، عن كثب تلك التّغيرات على مستوى الخريطة السّياسية الفرنسية، ولكن أعيننا على ما سيقرّره ماكرون بشأن الانسحاب من منطقة السّاحل، نهاية 2021 وبداية 2022، كما وعد في أحد خطاباته، ذلك أن ما يهمّنا هو تداعيات تحولات الخريطة السّياسية الفرنسية، وحتّى مع الاستقرار على الحفاظ على وضع فرنسا كما هو، أي الاتّجاه نحو التّجديد لماكرون لعهدة ثانية، فإنّ التغيرات في غرب المتوسط وآفاق التّحوّلات على مستوى السّاحل، إضافة إلى تطورات الوضع في كلّ من ليبيا وتونس، كلها أوضاع تصنع فرنسا فيها الفرق، وننتظر ما سيحدث وتداعيات ما سيحدث، في المستقبل القريب.