الخبرة الميدانية ومداخل تفكيك الظاهرة الاستبدادية
ليس من هدف هذا المقال استعراض أفكار الجزء الثاني من تقرير هيئة الحقيقة والكرامة، التونسية، الصادر بعنوان "تفكيك الاستبداد"، وهو يمثل نموذجا عمليا وإجرائيا من بلادنا العربية في التعامل مع الاستبداد، باعتبار الهيئة حكومية مستقلة، شرّعها البرلمان التونسي في يونيو/ حزيران 2014، وقد عهد إليها مهام كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات والتعذيب والفساد من 1 يوليو/ تموز 1955 إلى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2013، وقد أدلى نحو خمسين ألف شخص بشهاداتهم بوصفهم ضحايا، وحوّلت عشرات الملفات إلى القضاء. ويعدّ هذا التقرير جزءا من التقرير الختامي للهيئة الصادر عام 2019 في خمسة أجزاء، تمثلت في عهدة الهيئة، وتفكيك منظومة الاستبداد، وتفكيك منظومة الفساد، وجبر الضرر ورد الاعتبار، وضمانات عدم التكرار.
بملاحظة مكونات هذا التقرير المهم، والتوقف عند الجزء المتعلق بتفكيك الظاهرة الاستبدادية، يكون هدف هذا المقال لفت الانتباه إلى طريقة المعالجة لخبرة ميدانية من جرّاء استطلاع كل المظالم الاستبدادية التي اقترفها نظام استطاع أن يوظّف من الآليات ما مكّنه من صناعة شبكة الاستبداد. ويبين التقرير جوهر تصوّره لتلك الظاهرة وما يميزها، ذلك أن "أهم ما يميز الأنظمة الاستبدادية هو احتكارها للسلطة وفرض سيطرتها على كل مفاصل المجتمع ومكونات الحياة الاجتماعية، كما أنها أنظمة دكتاتورية يتم في ظلها مصادرة كل الحريات واخضاع كل المواطنين للمراقبة المستمرّة، واعتماد أشكال مختلفة من التخويف والترهيب، توسعت مشمولات هذه الآلية المعتمدة لتشمل كل الفاعلين والعاملين في القطاعات المهنية العمومية والخاصة على حد السواء، وذلك من خلال اختيار عناصر معينة للمراقبة وجمع المعلومات كل حسب مجال اهتماماته، بهدف الاضطهاد الممنهج عبر أجهزة الدولة الأمنية منها والإدارية".
خلص تقرير هيئة الحقيقة والكرامة، التونسية، إلى أن الانتقال الديوقراطي عملية سياسية استثنائية معقدة، ومؤسّساتية، تستند لإجراءات وتقنيات خاصة
وارتباط مسألة تفكيك مفاصل الظاهرة الاستبدادية بالظاهرة الانتقالية أمر غاية في الأهمية، لأن عملية الانتقال هذه إذا اتُخذت بالوعي الكامل، والفاعلية الواجبة، فإنها قادرةٌ على أن تشكل مدخلاً لاستراتيجية عملية التفكيك تلك. وقد خلص التقرير إلى أن الانتقال الديمقراطي عملية سياسية استثنائية معقدة، ومؤسّساتية، تستند لإجراءات وتقنيات خاصة بمرحلة معينة، وهي تشكّل مسارًا بين القديم والجديد، بين الهدم والبناء، كما تقتضي وجود نسق قانوني ومؤسّساتي وسيط بين منظومة قانونية توقف العمل بمقتضاها وأخرى لم تتشكّل، أو على أفضل تقدير هي بصدد التشكّل. مؤكّدا أن الانتخابات تمثل مناسبةً للتعبير عن سيادة الشعب وعن شرعية السلطات العمومية، وهو ما يتطلب ليس فقط نزاهة الانتخابات وشفافيتها، ولكن أيضا توفير مناخٍ صحّي يلفظ منطق التجاذبات والإقصاء، وينبذ المال السياسي وسيادة الرشوة والإغراءات، واستغلال المواطنين.
وقد تمكّنت الهيئة من معرفة المفاصل والآليات التي يستعملها النظام الاستبدادي، لتحويل وجهة القانون وتوظيف المؤسسات لخدمة مصالح المقرّبين من الحكم، وهي منظومة مصمّمة لإخضاع المجتمع بأكمله، تصنع التهميش الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهي منظومةٌ ترتكز على شبكة أخطبوطية، تمد قبضتها على جميع أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتستحق اسم "الشبكة الاستبدادية" وتتكون من: شبكة رقابة أمنية: البوليس السياسي، آلة التعذيب، آلة العقاب الجماعي، الإذلال، الملاحقة الأمنية، سياسة التجويع وقطع الأرزاق. شبكة رقابة مهنية: انتدابات وهمية، توظيف حسب الولاء. شبكة رقابة اقتصادية: منظومة التراخيص والامتيازات للتحكم في أصحاب المشاريع والمقاولين، توظيف الهياكل القضائية والتشريعية لخدمة أغراض سياسية، وتحويل الملكية العامة إلى الخواص لكسب الولاءات. شبكة رقابة مالية: توظيف البنك المركزي، والبنوك العمومية لخدمة المقربين، وتحويل ديون المقربين إلى ديون عمومية. الذراع القضائية للسلطة: ضمان ولاء بعض القضاة في المواقع المفصلية الذين يضفون غطاءً قضائيا على القرارات السياسية، ويستخدمون مؤسسة السجون سلاحا ضد من يعارضهم. شبكة التضليل الإعلامي: كان الإعلام ولا يزال تحت سيطرة المركب المالي الإعلامي الأمني، فالسيطرة الأمنية على الإعلام مركزية، سواء في الرقابة أو الإدارة. وعندما سقطت السيطرة الرسمية، استطاعت هذه المنظومة استرجاع دورها خارج إطار مؤسسات الدولة، مستخدمة وكالات الاتصال الخاصة التي استوعبت "الخبرات التضليلية"، واستطاع المركب المالي أن يعيد السيطرة الأمنية على الإعلام، وإنْ بصور مختلفة. وذلك عبر آليات الوشاية، الرقابة على المراسلات في البريد، السجون، التعذيب، الملاحقة الأمنية وقطع الأرزاق، توظيف المؤسسة القضائية، توظيف الجهاز الأمني، منظومة الدعاية والتضليل الإعلامي، مصادرة حرية التنظيم، تزوير الانتخابات.
تمكّنت الهيئة من معرفة المفاصل والآليات التي يستعملها النظام الاستبدادي، لتحويل وجهة القانون وتوظيف المؤسسات لخدمة مصالح المقرّبين من الحكم
تتمثل أهمية هذا المدخل باعتباره البعد الذي يحدّد الكيفية التي تتعلق بمواجهة الظاهرة الاستبدادية، والتعامل مع مفاصلها الأساسية؛ فمن مجموع هذه التضمينات والملاحظات الأساسية على هذا التقرير والهدف منه، يتضح مدى أهمية هذا المدخل الذي يقوم على تشريح ظاهرة ميدانية وعيانية في الدولة والمجتمع، من خلال خبرةٍ بعينها، والتعرّف على الكيفيات والآليات في صناعة الظاهرة الاستبدادية ومواجهتها على حد سواء. هذا هو ما يعنيه المقال بأهمية هذا المدخل الإجرائي لمعاينة هذه الظاهرة الاستبدادية، والقيام عليها تشريحا وتفكيكا، والتأكيد على أن تفكيك الظاهرة الاستبدادية ليس معركةً واحدة، وإنما جملة من المعارك الكبرى والمركبة، يجب أن تقوم على الرصد الواعي والعميق الذي يشكّل مقدّمةً حقيقيةً لتشكيل شبكة من آليات مقاومة الظاهرة الاستبدادية. نقول ذلك بمناسبة هذا التقرير الذي صدر في العام 2019 في تونس، وهو ما يعبر عن إنجاز كبير وخطير، ولكن وضع هذا التقرير عند التطبيق مسألة أخرى، تتعلق بالقدرة على القيام بتلك المواجهة في سياقٍ يتعرّف على الماكينة التي تعمل بها الدولة والمجتمع على حد سواء، بمؤسساتهما المتعدّدة، وفي المجالات المختلفة. ولعل هذا يطرح سؤالا كبيرا، ماذا بعد تلك الردّة التي حدثت في التجربة التونسية، من خلال آلية انقلابية حاولت، بشكل أو بآخر، أن تقطع الطريق على مثل هذه المحاولة الرصدية الواعية في أن تتشكّل ضمن مؤسساتٍ حقيقيةٍ لتفكيك هذا التراكم الاستبدادي والظاهرة الطغيانية باعتبارها ظاهرة سرطانية خطيرة.
من المهم أن يشار إلى الصعوبة التي تتعلق بشأن التغييرات الاستراتيجية والجذرية في مواجهة تلك الشبكة الاستبدادية
ذلك أن من المهم أن يشار إلى الصعوبة التي تتعلق بشأن التغييرات الاستراتيجية والجذرية في مواجهة تلك الشبكة الاستبدادية، فمن المهم التأكيد أن تلك الشبكة، بما تمثله من مصالح آنية وأنانية وسلطات احتكارية، لن تقف مكتوفة الأيدي في هذه المعارك الكبرى. ومن ثم، فإن رسم تلك الاستراتيجية التي تؤكّد على عملية تدافع في الميدان، وعلى أرض الواقع، إنما تتطلب رؤيةً شاملةً لمثل تلك الإصلاحات الجذرية التي تتعلق بمجالات متعدّدة. ولعل، في هذا المقام، أن نحرص، بعد هذا الرصد الواعي، على الإمكانات التي تشكّل طاقة حقيقية في التدافع مع تلك الظاهرة الاستبدادية والتعامل مع تراكماتها، وتوابعها. إنها معركة حقيقية فيها من فنون الكرّ والفر، وفنون التقدّم والتأخر، وفنون الهجوم والدفاع، وفنون ابتداع الأدوات وتعظيم فاعلية الأداء ضمن مواجهةٍ كبرى، تنهض بها قوى مجتمعية فاعلة قادرة على أن تضع تلك الاستراتيجية موضع التطبيق، وهي تحاول هذا التغيير يجب أن تفطن إلى هذا الدرس المهم الذي دائما ما كان يشير إليه المستشار طارق البشري، أن عليك أن تصلح ماكينة المجتمع وهي تدور، وليس لك أن تُوقفها، وهي مهمة شديدة الحساسية والدقة، وشديدة الخطورة والتعقيد.