الحياد السويدي في خبر كان
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
تتحكّم الجغرافيا والتوجهات السياسية المستلهمة من التاريخ في العلاقة بين السويد وروسيا، كما تحدّدها الآفاق المستقبلية للمعادلات الدولية الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها الإقليمية. وهي معادلات ستتأثر بالتحولات المناخية والأولويات الاقتصادية، ولا سيما في مجال الطاقة والتنمية، فالسويد مجاورة لروسيا، ولها علاقات وثيقة مع دول البلطيق وفنلندا، وهي الدول التي تتشارك في حدود برّية مع روسيا وتعتبر السويد بمثابة الشقيقة الكبرى.
كان التنافس على المنطقة على أشدّه بين روسيا والسويد في المرحلة التي كانت تعتبر الأخيرة قوة عظمى في المنطقة، حتى أنها دخلت تحت قيادة ملكها كارل الثاني عشر في حربٍ طاحنة مع الروس في أثناء عهد القيصر بطرس الأكبر في بدايات القرن السابع عشر، وتعرّضت لخسارة كبرى أمام الجيش الروسي في معركة بولتافا بأوكرانيا عام 1709، الأمر الذي أجبر الملك السويدي، في ذلك الوقت، على التوجه نحو الأراضي التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية في مولدافيا، واستقر في منطقة بندر بين 1709 و1714، وكان ذلك في عهد السلطان العثماني أحمد الثالث الذي كان هو الآخر على علاقة عدائية مع الإمبراطورية الروسية.
واستمرّت العلاقة العدائية بين السويد وروسيا في القرن التالي، إذ رفض ملك السويد غوستاف أدولف الرابع طلب نابليون بونابرت القاضي بمقاطعة بريطانيا تجارياً، فهاجمت روسيا التي كانت متحالفة مع نابليون، في ذلك الحين، فنلندا التي كانت جزءاً من السويد في عهد ألكسندر الأول، وكان ذلك في عام 1808. ووصل الجيش الروسي إلى مدينة أوميو في الشمال السويدي راهناً، وكان الهدف هو السيطرة على استوكهولم نفسها، الأمر الذي أدّى إلى استسلام الجيش السويدي في سبتمبر/ أيلول 1808، كما حصل انقلاب دموي على الملك السويدي. وفي سبتمبر 1809 جرى التوقيع على معاهدة سلام بين روسيا والسويد، فقدت بموجبها الأخيرة سيادتها على فنلندا التي أصبحت جزءا من الإمبراطورية الروسية، وظلّت خاضعة لها إلى بدايات الثورة الاشتراكية في أكتوبر/ تشرين الأول 1917، إذ حصلت على استقلالها في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1917.
سياسة التوسّع باتت بالنسبة إلى روسيا جزءاً من استراتيجية الحفاظ على التماسك الداخلي
ويبدو أن تلك التجربة القاسية دفعت السويد إلى التزام نهج الحياد في التعامل مع الصراعات التي كانت تنشب بين القوى الدولية العظمى التي كانت تتطلّع نحو توسيع دائرة نفوذها، ومراكمة أسباب قوتها، فالتزمت السويد الحياد في الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعلت في الثانية؛ مع الإشارة إلى أن حيادها لم يكن خاصاً تماماً، وإنما كان التزاماً رسمياً لتجنب المخاطر؛ الأمر الذي لم يمنع، في بعض الأحيان، من الوصول إلى تفاهمات غير معلنة مع هذه الجهة أو تلك من الجهات المتصارعة لإقناعها بأهمية الابتعاد عن السويد، مقابل الحصول على بعض الامتيازات، كما كان الأمر مع هتلر في أثناء الحرب العالمية الثانية.
وخلال الحرب الباردة، احتفظت السويد بحيادها، ولكنها كانت حريصةً على هويتها الغربية، وأصبحت بفعل نظام الرفاه الذي وضع أسسه الحزب الاشتراكي الديمقراطي في بدايات ستينيات القرن المنصرم، وهو النظام الذي ساهم في دحض الدعاية السوفييتية التي كانت تتغنّى بالفردوس المزعوم الذي حققته الأحزاب الشيوعية في دول المعسكر الشرقي، وهو الفردوس الذي تبيّن فساده مع انهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر عام 1991، والتحوّلات التي شهدتها دول المعسكر الشرقي بعد ذلك.
واليوم إذ تستعد السويد لتقديم طلب الانضمام إلى حلف الناتو، نتيجة تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والتحولات النوعية التي أحدثتها هذه الحرب في مواقف دول كثيرة، ومن ضمنها السويد. واللافت في مسألة هذا القرار السويدي سرعة اتخاذه، وعدم انتظار نتائج المناقشات العامة، بل كان الحرص على إخراج هذا الموضوع من دائرة الحسابات الحزبية والانتخابية، والتعامل معه على أنه يخصّ الأمن الوطني الاستراتيجي، ويستدعي قراراً سريعاً، خصوصا بعد قرار فنلندا الانضمام، الأمر الذي شكّل مزيداً من الضغط على الحكومة الاشتراكية السويدية، لإدراكها أن الاعتبارات الجيوسياسية باتت ضاغطة، وأن ما تعرّضت له أوكرانيا يمكن أن تتعرّض له البلدان المجاورة الأخرى أيضاً، ولا سيما أن هجوم القوات السوفييتية على فنلندا في عهد ستالين في أثناء الحرب العالمية الثانية ما زال في الذاكرة الحيّة، فسياسة التوسّع باتت بالنسبة إلى روسيا جزءاً من استراتيجية الحفاظ على التماسك الداخلي، وذلك عبر محاولات إقناع المجتمع الروسي بمزاعم المخاطر الوجودية التي تتعرّض لها روسيا، وبما يستوجبه ذلك من التماسك، والثقة المطلقة بالحاكم المطلق الصلاحيات، وإعطاء الأولوية لتنمية القدرات العسكرية على حساب القدرات التقنية الاقتصادية السلمية التي من الواضح أن روسيا، على الرغم من مواردها المالية والبشرية الضخمة، ما زالت متخلفة فيها حتى عن بعض الدول المجهرية.
السويد حصلت على وعود من الألمان والأميركان والبريطانيين؛ بل عقدت اتفاقية دفاع مشترك مع بريطانيا، تحسباً لأي طارئ
جرى تجاوز الحياد السويدي بهذه الصورة أو تلك مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، وكان ذلك بعد استفتاء شعبي. ولكن الاتحاد الأوروبي يبقى تكتلاً اقتصادياً في المقام الأول، على الرغم من الدعوات التي كانت وما زالت، خصوصا من فرنسا، بضرورة تشكيل قوة عسكرية أوروبية مهتمها الدفاع عن أوروبا، وذلك تحسّباً لحدوث تحوّلات في الموقف الأميركي كالتي كانت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
تتخذ السويد قرار الانضمام إلى حلف الناتو من دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي العام الذي عادة ما يجرى قبل اتخاذ القرارت في القضايا الخلافية الحاسمة. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الاستفتاءات تكون غير ملزمة وفق الدستور السويدي، إلا أن الحكومة بصورة عامة تراعي توجهات المواطنين، ولكن جرى في موضوع الانضمام إلى "الناتو" تجاوز هذه الخطوة، وذلك بناء على تقديرات الحكومة والمعارضة التي ترى ضرورة الانضمام، وأهمية الإسراع فيه.
ولطمأنة الرأي العام السويدي، والتخفيف من حدّة معارضة بعضهم هذه الخطوة، تواصلت الحكومة السويدية مع الفاعلين الأساسيين ضمن "الناتو" بغية الحصول على ضمانات أمنية، تؤكّد أنه (الحلف) سيتدخل في حال تعرّض السويد لأي تهديد خلال الفترة الفاصلة بين تقديم طلب الانضمام والحصول على العضوية الكاملة في الحلف، وهي عملية قد تستغرق بعض الوقت. وجدير بالذكر هنا أن السويد حصلت على وعود من الألمان والأميركان والبريطانيين؛ بل عقدت اتفاقية دفاع مشترك مع بريطانيا، تحسباً لأي طارئ.
مرحلة عضوية حلف الناتو بالنسبة إلى السويد لن تكون مثل المرحلة التي كانت قبلها، فالنفقات الدفاعية سترتفع، وإنتاج الأسلحة سيزداد
وبالنسبة إلى الموقف التركي المتحفظ على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف، فالاعتقاد السائد بين المسؤولين المعنيين السويديين في الحكومة والمعارضة أنه موقف تفاوضي في المقام الأول، يرمي إلى الحصول على بعض الامتيازات، وربما التنازلات، من الأميركان، وحتى من السويديين.
من الواضح أن "الناتو" يحتاج إلى السويد التي تشكل عمقاً استراتيجياً لا استغناء عنه في ضوء نتائج الهجوم الروسي على أوكرانيا، وذلك لاعتبارات ميدانية تقنية في حال اضطر "الناتو" للتدخل لحماية الدول الأعضاء المحاذية لروسيا، لا سيما دول البلطيق وحتى بولندا. ولعله من نافلة القول هنا إن مرحلة عضوية حلف الناتو بالنسبة إلى السويد لن تكون مثل المرحلة التي كانت قبلها، فالنفقات الدفاعية سترتفع، وإنتاج الأسلحة سيزداد. كما أن الاستعداد للمتغيرات المناخية، وإمكانية ظهور طرق جديدة للملاحة البحرية في المناطق القطبية الشمالية ستفرض مزيدا من التحديات وسط هواجس احتمال الاستغلال الروسي لذلك، وما قد يحمله هذا الأمر من تهديدٍ لأمن دول الشمال التي ستشكّل تكتلاً إقليمياً جذاباً، سيكون في مقدوره تقديم نموذج يُحتذى به لشعوب روسيا والدول الدائرة في فلكها، فهذا التكتل يضم دولاً ديمقراطية ناضجة، تتميز بنظام الرفاه الاجتماعي الذي يحافظ على الأمن والاستقرار الداخليين، سواء على مستوى كل دولة من دول الإقليم، أم على مستوى الإقليم بأسره. كما يتمتّع هذا التكتل بمستوى رفيع من التقدّم التكنولوجي، وبإنجازات كبرى في ميادين المحافظة على البيئة، وإنتاج الطاقة المتجددة. ولن يكون ذلك كله في صالح النموذج الروسي الذي لا يقيم وزناً للحرّيات الفردية والعامة، ولم يحقّق نجاحاً في الميادين المعرفية التقنية، كما أنه يمثل ملاذاً للفاسدين الذين استفادوا من الموارد العامة، ويحظون بتغطيةٍ رسميةٍ مقابل القيام بأدوار وظيفية لصالح النظام الحاكم في روسيا، والذي يدعم القيادات اليمينية المتطرّفة في أوروبا ويحظى بتأييدها.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.