الحوار في موريتانيا معلقاً في مهبّ الجدل
الحوار إحدى آليات الديمقراطية الحديثة للتباحث في الأمور الخلافية، ولحل النزاعات وتدارس الأوضاع وتذليل المصاعب التي تعرفها الدول والمجتمعات والتنظيمات السياسية بالطرق السلمية. وموريتانيا، كما دول غيرها، في توسل هذه الآلية منذ الاستقلال في العام 1960، فقد جرى الحوار بين المرحوم المختار وداداه وحركة الكادحين ذات التوجّه اليساري، مما نتج عنه اتخاذ الدولة قرارات جريئة، ودخول أغلب قادة الحركة في حزب الشعب الموريتاني، وبقاء الجزء الآخر في المعارضة السرّية. كما جرت عدة حوارات بعد استيلاء الجيش على السلطة في يوليو/ تموز 1978، تفاوتت نتائجها بحسب سياقها وظروف تنظيمها والهدف منها ومخرجاتها والجهات المعنية المشاركة فيها.
دأب الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني، منذ توليه الحكم في 2019 على تهدئة الوضع السياسي في بلاده، إلى درجة أن كثيرين يرون أنه تبنّى خطاب المعارضة، ودخل في اتصالات ثنائية مع الفرقاء السياسيين وأصحاب الرأي، نتج عنها شبه غياب لخطاب المعارضة من الساحة السياسية، إذا ما استثنينا بعض إطلالات خجولة لهذا الحزب أو ذاك. ولعل هذا يدخل ضمن استراتيجية الرئيس، عندما قال إن الحوار مفتوح للكل، ولا خطوط حمراء في مواضيعه، فهو يريد من الحوار أن يكون شاملا، ولا يستثني أي موضوع، ولا يقصي أي جهة.
رياح السياسة جرت بما لا تشتهي سفن قبطان اللجنة التحضيرية للحوار، حيث انسحبت بعض أحزاب المعارضة المشاركة في الحوار
استغرق إعداد عملية الحوار/ التشاور نحو سنة من عمل اللجنة التي أسندت إليها المهمة. ولم تخل عملية الاعداد هذه من مطبّات، تتعلق بالاتفاق على المصطلح والتفريق بين الحوار والتشاور، حيث يرى بعضهم أن نتائج التشاور ليست ملزمة عكس نتائج الحوار. كما شملت المطبّات تلك المعلقة باختيار المواضيع ذات الاهتمام والجهات المشاركة والمخرجات وآلية تنفيذها وضماناتها وأفقها الزمني. وكانت الأطراف السياسية المشاركة في التحضير للحوار قد اتفقت على مشاركة 600 شخص، منهم 280 يمثلون الأحزاب السياسية، و320 لهيئات المجتمع المدني ومؤسساته، وإقرار تسع ورشات وثلاثة محاور تتألف من مواضيع فرعية، ولجنة للتوجيه وأخرى للإعلام والصحافة، ولجنة للسكرتاريا. من أبرز هذه الملفات، المسار الديمقراطي، والإصلاحات الدستورية والتشريعية، وتعزيز دولة القانون، ومعالجة إشكالية الرقّ ومخلفاته، ومكافحة الفساد، وإصلاح القضاء، والإصلاحين، الإداري والعقاري، وغيرها.
إلا أن رياح السياسة قد جرت بما لا تشتهي سفن قبطان اللجنة التحضيرية للحوار، حيث انسحبت بعض أحزاب المعارضة المشاركة في الحوار، معلنة قرارها عدم المشاركة في مجرياته. وبناء على ذلك، أعلن رئيس اللجنة تعليق الحوار أو توقفيه حتى إشعار جديد، قد يتحول إلى أجل غير مسمّى، فلا المعارضة ترغب في أن تتحمّل مسؤولية توقيف الحوار، ولا الأغلبية راضية بذلك، وما يترتب عليه من تبعاتٍ سياسيةٍ بالدرجة الأولى. وفي ظل تدافع المسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن تعليق الحوار أو توقيفه، تبقى جملة من الأسئلة العالقة مطروحة، يمكن من خلال سبر كنهها الوصول الى معرفةٍ أكثر دقة بحيثيات ما حدث ومآلاته المحتملة، بعيدا عن الاصطفاف الإيديولوجي والسياسي الذي يحجب الحقيقة، ويمنع من الحكم الموضوعي.
هل كانت الحملة الرئاسية السابقة لأوانها التي قام بها النائب والمرشّح السابق للرئاسيات، برام الداه اعبيد، تحت راية حزب "الرك" الذي لم يحصل بعد على الترخيص، أحد الأسباب غير المباشرة لما آل إليه الحوار، أم أنه جرى تجاوز خطوط حمراء بالنسبة لبعضهم؟ هل توقف الحوار أو علق، حتى يعود الفرقاء الذين خرَجوا إلى الصف؟ أم أنه لا يعدو أنه مناورة قامت بها الحكومة لإلهاء الموريتانيين وشغلهم عن قضايا الحياة اليومية، وتأثيرات جائحة كوفيد 19 التي تفاقمت على أثر الحرب الروسية الأوكرانية، أم أنه توقف بسبب خلافات داخل الصف الداعم للرئيس؟
الوضع الإقليمي والدولي لا يبدو ضاغطا في اتجاه تنظيم الحوار
على الرغم من الأهمية الإعلامية، وحتى السياسية، المعطاة للحوار، فإنه أعد على أرضية تخدم السلطة القائمة أكثر من غيرها. ويمكن القول إن الحكومة قد لا تكون بحاجة ماسّة للحوار، فهي تعتمد على دعم حزبٍ يتمتع بأغلبية برلمانية مريحة، تجلت قوتها في رفض نحو 40 مقترحا قدّمها أحد النواب، تتعلق بجوانب تراوحت بين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مثل زيادة رواتب المدرسين وأعضاء الشرطة والحرس والتكفل بتسديد فواتير كهرباء وماء المساجد، ونحوها. حيث رفضت الأغلبية كل الاقتراحات بما يزيد على 90 صوتا مقابل أقل من 20، ضاربة عرض الحائط بأهمية هذه المقترحات، وصلتها بحياة المواطنين ومعاناتهم. كما أن الوضع الإقليمي والدولي لا يبدو ضاغطا في اتجاه تنظيم الحوار، ففرنسا الدولة المستعمرة السابقة مشغولة بانتخاباتها وبتأثير الحرب الروسية الأوكرانية، وبملف انسحابها العسكري من مالي وتداعياته الأمنية في المنطقة. والدول المجاورة منشغلة بقضاياها الداخلية وحساباتها الجيو استراتيجية، كالمغرب والجزائر والسنغال ومالي. ولا تبدو الولايات المتحدة، مهتمة في الوقت الراهن على الأقل، بهذا الملف، وإنْ تراقب ملف الفساد في موريتانيا، كما جاء في تقرير حالة حقوق الإنسان في العالم الذي صدر أخيرا عن وزارة الخارجية الأميركية، وذكر أن مرتكبي الفساد في البلد لا يتابَعون على جرائمهم.
زد على ذلك تأثير الدولة العميقة ودفعها في اتجاه الحفاظ على الوضع القائم بعجره وبجره، وسد الطريق أمام أي محاولة للمساس به، وتتغيير مقتضياته من فوائد وامتيازات، تستفيد منها فئات نافذة في المجتمع. أما المعارضة فمنهكة بفعل المعوقات البنيوية التي تشكو منها، وعدم انسجامها، ما يجعلها عاجزة إلى حد كبير عن الفعل السياسي المؤثر الذي يمكن أن يزعج، في الوقت الراهن، النظام الحالي الذي ربما يرغب في إنجاز شيء ما في هذا السياق، خصوصا أن الرئيس تحدّث عنه أكثر من مرة، وهو ما يمكن أن يجيره ويستخدمه مدخلا للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي هذه الحالة، لا يستبعد أن تجري ترضية من نوع ما للغاضبين الجدد، ويستأنف مسلسل الحوار حفظا لماء الوجه.
ستخرج المعارضة خاسرة في معركة الحوار، فهي تكاد تكون قد فقدت الكثير مما تبقى من مصداقيتها لدى المواطنين، بسبب تماهيها مع النظام شبه التام
هل تترك الحكومة وزر توقف الحوار أو توقيفه على المعارضة، فتمضي في سبيل إنجازات أكثر التصاقا بحياة المواطنين ومعاناتهم، كتوسيع نطاق الضمان الاجتماعي، أو توزيع مساعدات العلف في هذه السنة العجفاء، وتوسيع البنية التحتية وتسهيل الحصول على الأوراق المدنية ومكافحة الغشّ في المدارس؟
أرجّح أن تسير الحكومة في تطويل أمد تعليق الحوار/ التشاور، خصوصا في ظل الحملات الشرائحية والحملات المضادّة التي تزامنت مع وضع اللمسات الأخيرة ظاهريا على إطلاقه، حتى أن مسؤولين عن هذه الحملات جرى توقيفهم ومحاكمتهم. ستخرج المعارضة خاسرة في معركة الحوار، فهي تكاد تكون قد فقدت الكثير مما تبقى من مصداقيتها لدى المواطنين، بسبب تماهيها مع النظام شبه التام، وسكوتها على أخطائه وقصور أدائه في مجالات تنموية عديدة، كالصحة والتعليم والبنية التحتية والبيئة وظروف معيشة المواطنين. ومن ناحية أخرى، تراجعها عن التهدئة مع الرئيس في فترة ما قبل الانتخابات، وجراحها في الرئاسيات السابقة لم تندمل بعد، خصوصا أن أكبر أحزاب المعارضة، الإصلاح والتنمية، ذا المرجعية الإسلامية، لم يسلم من انسحابات شخصيات وازنة منها، وقد لا تكون آخرها النائب سعدانه خيطور التي كانت تمثل الحزب في البرلمان، وقد فصّلها الحزب أخيرا على خلفية تعرّضها لبعض شخصيات قيادية فيه.
اقتراب الاستحقاقات السياسية البلدية والنيابية والرئاسية، والحاجة إلى إنجاز توافقية، عاملان يتجاذبان ربما يحدّدان وجهة الحوار/ المشاورات في الأيام والأسابيع المقبلة. والراجح ألا يصار إلى الحوار من جديد، بفعل ضيق الوقت واقتراب الاستحقاقات الانتخابية، ما يعرّض تطبيق نتائج الحوار للخطر، مع أن موسم الأمطار يبدو مبشّرا، وهو ما يبعد شبح الأزمة المرتبط عادة بالجفاف وقلة المطر.