الحلم العربي وأغاني المهرجانات
أغنية شعبية جديدة، من نوع أغاني المهرجانات الذي أصبح سريع الانتشار في مصر، يتم تشغيلها بكثافة في وسائل المواصلات الشعبية، مثل التوكتوك والميكروباصات الصغيرة، وأغاني المهرجانات الحديثة تتحدث، عادة، عن صراعات الشوارع، أو أنواع المخدّرات، أو غدر الأصحاب، أو كيفية استخدام الأسلحة، أو بعض قصائد الغزل الصريح، ولكن اللحن المستخدم في الأغنية المذكورة كان هو لحن أغنية الحلم العربي التي كانت منتشرة بشكل كبير في مصر، والوطن العربي في بداية الألفية. كانت تلك الأغنية الأبرز والأشهر في مصر أيام انتفاضة فلسطين الثانية، وهي من تأليف السيناريست مدحت العدل، ومن تلحين الموسيقار حلمي بكر، والموسيقار صلاح الشرنوبي، وتوزيع الفنان والموزع حميد الشاعري. وفي عام 2002 كان يمكن سماعها تخرج من كل البيوت المصرية في الشوارع، ومن السيارات والراديو والتلفزيون، وفي مسارح المدارس والجامعات. كانت تلك الأغنية في ذلك التوقيت ذات تأثير كبير على قطاعات ضخمة من الشعب العربي، وكانت القنوات الفضائية تعيد إذاعتها مرة تلو الأخرى. ومع أنها لم تكن أغنية شبابية، إلا أن الشباب والمراهقين والأطفال كانوا يسمعونها في وسائل المواصلات عن طريق اختراع "الووكمان".
كان لتلك الأغنية شأن كبير في بداية الألفية، فقد جمعت فنانين عديدين من مختلف الدول العربية، ينشدون أغنية ذات ألحان مؤثرة عن الحلم العربي القديم الذي سمعنا عنه. أذيعت الأغنية في أثناء فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما كان يصاحبها من مشاعر مختلطة ومركّبة، بين الحنين لفكرة القومية والغضب من الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة، والرثاء للذات والإحساس بالمهانة من الضعف العربي الدائم والعجز عن وقف العدوان أو عدم القدرة على الرد أو اتخاذ موقف عربي موحد.
لم تكن فترة المد القومي في الستينيات مليئة بالانتصارات الكبرى كما صوّرتها أغنية "الوطن الأكبر"، وانتهت بهزيمةٍ مخجلةٍ ومزلزلةٍ عام 1967
وقتها قارنها بعضهم بأغنية "الوطن الأكبر" التي لحّنها محمد عبد الوهاب عام 1960، وشارك فها عبد الحليم حافظ وصباح وفايدة كامل ووردة ونجاة وشادية، وأثارت أيضا وقتها مشاعر الملايين في العالم العربي، خصوصا مع المد القومي وأحلام الوحدة العربية التي كانت مسيطرة وقتها، فتحدّثت الأغنية عن مفاهيم الوحدة العربية التي كان يؤمن بها من يعيشون في القطر العربي. وفي الوقت نفسه، لم تتحيّز الأغنية وقتها لشخصٍ معين أو اتجاه سياسي معين، وهو ما أعطاها شعبية كبيرة، وإنْ كانت الأغنية منسوبة للفترة الناصرية وتوجهات جمال عبد الناصر ودعمه فكرة الوحدة، ولم تتم الإشارة إلى أي زعيم عربي صراحة في تلك الأغنية، ما أعطاها قبولاً واسعاً، لدى الجماهير في مختلف الاقطار العربية.
وكان اللحن حماسياً بشكل كبير، يدخل القلوب، ويجعل المرء يتمنّى الوصول إلى لحظة إعلان الوحدة وتحقق الحلم الكبير. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك انتقادات ظهرت بعد ذلك، فلم يكن هناك من يجرؤ على انتقاد الأغنية وكلماتها، وقتها بالطبع. ولكن هناك من انتقد المبالغة الشديدة في كلمات الأغنية، مثل عبارة "انتصاراته ماليَة حياته"، فلم تكن فترة المد القومي في الستينيات مليئة بالانتصارات الكبرى كما صوّرتها الأغنية، وانتهت بهزيمةٍ مخجلةٍ ومزلزلةٍ عام 1967، ولكن ربما كان المقصود بالانتصارات هو ما حدث في تحرير الجزائر، أو الانتصار السياسي بعد أزمة السويس 1956، أو بعد الوحدة قصيرة الأمد بين مصر وسورية. وبعد سنوات، اعتبر بعضهم أن تلك المبالغة في ذكر الانتصارات العربية الكبرى أمر يدعو إلى السخرية والأسى.
ظل الحلم العربي يتلاشى ويتلاشى بعد كل الضربات والكوارث حتى أصبح الحديث عن الوحدة العربية مثاراً للسخرية، أو التعجب
كان الجميع في فترة الانتفاضة الثانية يراقب في عجز، يحنّ للحلم العربي بالوحدة، ويسمع أوبريت الحلم العربي في حزن. إنه الحلم بوجود قوة اقتصادية عربية ودفاع عربية مشتركة لردع الأعداء، وحدة تسمح بانتقال الشعب العربي بحريةٍ بين الأقطار العربية، كما كان الأمر قبل تأسيس الدول والممالك العربية، الحلم العربي بالردّ على تلك الإهانات الإسرائيلية الصاع صاعين، أو على الأقل القدرة على وقف العدوان والظلم الواقع على الفلسطينيين.
وبالطبع، كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يتحقق حلم الوحدة العربية في فترة الألفية، فهو لم يتحقق في وقت الذروة لمطالب الوحدة في الخمسينيات والستينيات، اصطدم وقتها بأطماع الزعماء العرب وجنونهم وخلافاتهم، مثل خلافات الناصريين، والبعثيين، وخلافات القوميين العرب، في تفاصيل كثيرة، حتى المحاولة الوحيدة للوحدة بين مصر وسورية لم تكتمل بسبب حماقة من قاموا بها وأطماعهم، بالإضافة إلى عدم حسم تفاصيل كثيرة بشأن النظام الاقتصادي والسياسي قبل القرارات الفوقية بالوحدة.
تحطّمت أول تجربة للوحدة برعونة عبد الناصر ومراهقة عبد الحكيم عامر، وانهارت التجربة سريعا بانقلاب تلو الآخر داخل سورية، وتحطم الحلم تماما بعد الهزيمة العسكرية المخجلة للعرب في يونيو/ حزيران 1967، ثم توالت الضربات لمشروع القومية العربية مع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والانقسام العربي الشديد بعد ذلك، ومقاطعة معظم الدول العربية مصر، ثم كانت الضربة الكبرى والقاضية مع مغامرة صدّام حسين، الذي يعد أحد رموز قوميين عربٍ كثيرين وأصنامهم، وغزوه دولة الكويت طمعا في الثروات ورغبة في التوسع وإيجاد منفذ على الخليج العربي.
كان الجميع في فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية يراقب في عجز، يحنّ للحلم العربي بالوحدة، ويسمع أوبريت الحلم العربي في حزن
وظل الحلم العربي يتلاشى ويتلاشى بعد كل الضربات والكوارث حتى أصبح الحديث عن الوحدة العربية مثاراً للسخرية، أو التعجب، خصوصا بعد هرولة دول في الخليج والجنوب والمغرب إلى التطبيع مع العدو الإسرائيلي بكل حبٍّ وحفاوة، فإسرائيل التي كانت العدو الرئيسي للعرب منذ نشأتها وخلال فترة المد القومي العروبي، ولعقود كانت القضية الفلسطينية وكيفية تحرير فلسطين وردع العدو الصهيوني هي القضايا المركزية العربية، ولكن بعد مرور 60 عاماً أصبحت إسرائيل الحليف الاستراتيجي لدول عربية عديدة، أصبحت مفتاح الانفتاح على العالم الخارجي لدولة مثل السودان، وهي الصديق الوفي الذي سيحمي دولا في الخليج العربي من الخطر الفارسي.
حلم القومية كان حلم العرب، حكاما وشعوبا، أو هكذا يُفترض، لكن التنفيذ دوماً بيد الحكام وليس الشعوب، وكانت القومية أو حلم الوحدة العنصر الرئيسي في حديث الزعماء إلى شعوبهم. ربما كان هذا هو سبب الإخفاق، فقد تحوّلت إلى شعاراتٍ إقصائيةٍ يتم بها دغدغة مشاعر الجماهير، ويتم بها ترويج نظرية المؤامرة وتبرير الفشل والفساد والاستبداد، مثل الفاشية والنازية، فالنسق العربي، منذ تأسيس الدول والممالك العربية، قائم على الفردية ورغبات الحكام العرب وصراعاتهم ومغامراتهم ونزواتهم.
وعندما انتفضت الشعوب العربية عام 2011، كان هناك أمل حقيقي في تحقيق ذلك الحلم، فالشعوب تأثرت ببعضها بعضا، وكانت مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية واحدة، وكان الشباب العربي المنفتح على بعضه عن طريق الإنترنت يحلم بإزالة الحدود المادية والمعنوية التي صنعتها السياسة والأنظمة العربية، ولكن المطالَب الشعبية العربية قمعتها الأنظمة والحكومات التي تستخدم شعارات قومية وعروبية، بعدما شيطنت الثورات والمطالب الشبابية، وألصقوا بها صفة المؤامرة. وتضاءل الحلم العربي حتى صار مجرّد أغنية مهرجانات شعبية تخرج من "التوكتوك"، فالوحدة ليست مجرّد شعارات وأغان، وقد تكون وحدة الثقافة ووحدة الماضي من العناصر المهمة لتحقيق وحدة وتكامل، ولكنها ليست العناصر الكافية لتحقيق وحدة سياسية اقتصادية. ويعتبر الاتحاد الأوروبي نموذجاً ناجحاً حول كيف كانت هناك مفاوضاتٌ استمرت سنواتٍ طويلة، وتنازلات من جميع الأطراف، ورغبة حقيقية شعبية قائمة على ديمقراطية، وليست قرارات فوقية، وكيف اتخذ الأمر عقودا من الخطوات والتقارب الاقتصادي حتى كانت الوحدة الأوروبية، على الرغم من اختلاف اللغة والأصول والأعراق، وعلى الرغم من كل الحروب والدم الذي كان بينهم قبل ذلك.