الحفرة السورية وفن إدارة الشر الأبيض

06 ديسمبر 2022
+ الخط -

ليس من المبالغة القول إنه لا توجد رواية على الإطلاق تعكس فداحة الواقع السوري، كرواية "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو. والسؤال الجوهري الذي تطرحه، ويتقاطع مع أسئلة أخلاقية كثيرة تشغل السوريين: كم من الوقت ستتمسّك بمبادئك الإنسانية، التي لطالما تفاخرتَ بها، قبل أن تستسلم لجانبك الهمجي التوّاق للظهور؟ هذه الرواية الاستثنائية إيضاحٌ، وإنْ بصورة مبالغ فيها، لمدى هشاشة الحضارة التي نتشدّق بها، والسهولة التي يمكن أن تُسقط إنسانيتنا أمام أضعف الاختبارات والكوارث. في السياق، عكست الحرب السورية فظاعة الجرائم الحيوانية التي ارتكبها الإنسان بحق بني جنسه، وساهمت في تشكيل تلك الصورة الظلامية عن شعبٍ يُجرجَر نحو الكهف والغابة، في آنٍ، ومنذ عقود، واليوم يُقاد نحو قاعٍ سحيق، من دون أن تُتاح له فرصة التلبّث، ليتأكد أيّ الطرق أقلّ دماراً من الآخر.
على صعيد موازٍ، ليست الحرب الغنية بالصور الظلامية سبب حالة الاستثناء أو الطوارئ. العكس هو الصحيح، تحويل البلد إلى فضاء عدمي هو ما أنتج الحرب ووجّهها نحو الداخل السوري، وهذا لأنها، حالة الظلام (أو الحصار)، هي البيئة المثلى لسلب الناس القدرة على التفكير والاعتراض. إذ من البديهيات المعروفة أنّ باحات القهر والفقر لا تعرف سوى أجواء الارتباك والتخبّط، وانقلاب المعايير، وتشتيت الرؤى والأذهان، بينما المواطن المسحوق الذي يعي مدى استحالة إدراك الصواب في عالم استبدّ به الرعب، ينشغل، لعجزه، بالتفاهات والتَّرهات وجميعها تحت عنوان الملاهي والتلاهي عن تذوّق طعم الحقيقة السورية المُرّة وهي: "الذئب الذي يأكل لحم السوريين موجود في الداخل، لكنّ الحاكم ما انفكّ يخبرهم أنّه قادم من وراء الحدود!".

الأزمة السورية في جوهرها قضية بلا شكل، إلى درجة أننا لا نعرف ما هذا الذي نراه، أو ما الذي يقع ضمن ساحتنا البصرية

سورية التي تغصّ جدرانها بالشعارات عن "الوحدة" و"الحرية" و"الاشتراكية" تجاورها، بطبيعة الحال، صور حافظ وباسل وبشار الأسد، بنظاراتهم الشمسية التي تخفي نظرة عيونهم عن عامة الشعب، شهدت حربين ساخنتين خلال زمن الطوارئ الأسدي، الذي هو في أساسه حرب أهلية دائمة، تمتد إلى 52 عاماً، وما زالت تغصّ بصرخات السوريين المكبوتة في عالم البيروقراطيات الضخمة والهويات القومية والإثنية المُغلقة. تأسيساً على ما تقدّم، أجزم باطمئنان أنّ الأزمة السورية في جوهرها قضية بلا شكل، إلى درجة أننا لا نعرف ما هذا الذي نراه، أو ما الذي يقع ضمن ساحتنا البصرية. أو على الأرجح نعرفه، لكنّها معرفة مثيرة للقشعريرة بفعل الانفصام المذكور، فسورية تُمثّل باختصار أقاصي الخوف الإنساني، أو لأكن أكثر دقة: تبدو أشبه بفيلم بوليسي يشهد مغامرات لأرواح وأجساد لا تملك ذاتها، وإنّما خُلقت لتكون مُدجّنة للأبد، كقطيع من الموتى يسير وراء الديكتاتور حتى قبره.
وهل أفظع من هذا الخبر الذي انتشر، أخيراً، مثيراً الرعب بين السوريين: مهندسة شابة لم يخطفها الموت في قذيفة غادرة، أو بجريمة ثأر، أو جلطة، أو حتى حادث سير، لقد غرقت في حفرة للصرف الصحي، بعدما سقطت فيها خلال ليلةٍ ممطرة وعاصفة! وبالعودة إلى بادئ ذي بدء، وإذا كان العمى الذي تبنّاه ساراماغو  يُصوّر بالشرّ الأبيض، فأول ما يلاحظه القارئ في الرواية أنّها مجرّدة من الزمان والمكان، وحتى شخصياتها تبدو مبهمة بلا أسماء صريحة. يُعرّفها الكاتب بإشاراتٍ توضيحية، مثل استخدامه أوصاف: الطبيب وزوجة الطبيب والسائق والمرأة ذات النظارة السوداء. وهل نبالغ إذ نقول إنّ السوريين بدورهم باتوا يُعرَفون بأساليب موتهم: من مات في مجارير الوطن وسراديبه وأنفاقه وسجونه. من مات غرقاً أو برداً، جوعاً أو قهراً. من مات برصاصة قنّاص أو بانفجار أو جرّاء قصف أو في مجزرة جماعية؟ إلخ.

سورية في زمن الحرب هي نفسها قبل الحرب، فالفرق بين الأسد الأب والأسد الابن هو في النسبة وليس النوع، في فجوة الوحشية لا غير

ليس الحديث هنا، بالتأكيد، عن حفرة الهوتة (85 كيلومتراً شمال مدينة الرقة)، والتي كانت ذات يوم موقعاً طبيعياً جميلاً، لتغدو مكاناً للرعب، فَضح ما حدث هناك، من مقابر جماعية دُفن فيها آلاف الأشخاص الذين أعدمهم مسلحو "الدولة الإسلامية" (داعش) من دون رحمة، إنّما الحديث عن حفرة الوطن الكبيرة التي يعيش فيها سوريون يُعاملون كقطيعٍ حيواني ذليل في مزرعة خاصة. فُرض عليهم الصمت، والخوف الذي تراكم عليه صدأ الوعي العام، ليكون صلصالاً طيّعاً بين أيدي الجلّادين في جمهوريةٍ عدمية المواطن والوطن. والحقيقة أنّ سورية في زمن الحرب هي نفسها قبل الحرب، فالفرق بين الأسد الأب والأسد الابن هو في النسبة وليس النوع، في فجوة الوحشية لا غير. ويكاد لا يُعثر على أيّ مفاهيم أو رؤى، قادرة على الإحاطة المعرفية بالمجريات الحالية التي أثبتت أنّ المسألة السورية من أعقد الظواهر التي مرّت على المنطقة طوال نصف قرن مضى، فالنظام السوري ظهر أكثر قوة وعمقاً مما كان يُتوهم حوله، ومثله كان المجتمع السوري، المُحمّل بتداخلات إقليمية ونفسية وعقائد سياسية وإيديولوجية بالغة التعقيد، يُستحال أن يُفهم أو يُحاط بها إلا بمنتجاتٍ عميقة من الأدب السياسي، كرواية "العمى" لساراماغو أو "1984" لأورويل أو حتّى "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جورجيو... إلخ، المناسب لخصائصه ونموذجه المتمايز، وهو ما لم يحدث حقاً.

تحوّل السوريون إلى قطعان من العميان، تطفو على السطح كلّ رغباتهم وشهواتهم، كذلك أحزانهم

في عمر الثامنة عشرة فقط، كتب إيتيان دو لا بويسي كتابه "مقالة العبودية الطوعية"، يستغرب فيه علّة الإذلال الذي يقدمه الناس لملوكهم، ويندهش من السرّ الذي يدفع الجماعة إلى أن تخضع، بإرادتها، للفرد الذي لا يتميز بشيءٍ سوى أنّ نطفته كانت في صلب أب ينتمي للعائلة الملكية. في المقابل، نقف هنا، وبالضرورة، عند رؤية فرانز فانون الذي أكّد أنّ نهاية كل طاغية هي حكماً نهاية مأساوية. لقد غرق فرعون، وأعدم تشاوتشيسكو، وانتحر هتلر، ولنا في موت معمر القذافي وصدام حسين خير مثال على مصير الطغاة الأسود. وبغض النظر عن مصير طاغية دمشق، يحضُر السؤال التالي بقوة: متى سيخرج السوريون من هوّة الوطن السحيقة، التي تحول دون الرؤية، ودون التمييز بين الخيالات والحقائق؟ ومع أنّ صيغة السؤال تبدو غير آمنة، وتحتمل شتى أشكال المغامرات والاحتمالات، فإن الخروج من هذه الحفرة سينتصر، حكماً، للأنا الفريدة ضد الوعي القطيعي، ويؤسّس لانتصار الذات في عالم اتحدت فيه مركزية الإله مع مركزية الحاكم، واتحدت صفاتهما مع الفرق في الشكل والأداء.
"السقوط في حفرة الوطن"... تبدو مقولة فلسفية جداً ومُوغلة في التجريد، لكنها في العمق تنبض كألمٍ عميق في وجدان كلّ من عاش الأحداث المفصلية بعد عام 1963. وما زال يتقلّب على نير النظام الحاكم الذي سحق فردية السوري، ووظّفه كترسٍ في آلة عملاقة في سبيل قضايا لم يخترها ولم يفهمها. هكذا تحوّل السوريون إلى قطعان من العميان، تطفو على السطح كلّ رغباتهم وشهواتهم، كذلك أحزانهم. تحرّكهم غريزة البقاء، لا الحياة، ومن دون اعتبار أي شيء آخر. وعليه يدرك العميان أنفسهم حجم الورطة التي وقعوا فيها، بعدما أدركوا أنّ العمى الحقيقي أن تحيا في مجتمعٍ بلا أمل. وهنا يبرز الأسلوب الإبداعي لساراماغو عندما تحوّلت روايته إلى قطعة نثرية متقنة الصياغة تزخر بالتعبيرات العميقة المعبرة عن الألم متسائلاً: "عميان بوسعهم أن يروا، لكنهم لا يرون!".