الحرب والسلام في مصر بين الاحتلال والاستقلال
لم يحارب المصريون على مدى نصف قرن من حرب السودان (1898)، حتّى حرب فلسطين 1948. قرار الحرب في السودان كان من الناحية الفعلية بريطانياً محضاً. كانت مصر تحت الاحتلال الإنكليزي، ولم تكن تملك من أمرها قليلاً أو كثيراً، وكانت الإمبراطورية البريطانية في عنفوانها، والخديوية المصرية في أضعف حالاتها. كذلك، كان قرار الحرب في فلسطين بإيحاء من الإدارة البريطانية التي كانت صاحبة السلطان الفعلي في مصر، ولم تكن لمصر مصلحة في قرار الحرب في السودان، بل كان القرار في صالح الاستعمار البريطاني المتنافس مع غيره من مراكز الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، وجاء قرار الحرب في فلسطين بغتةً على غير استعداد عملي من الجيش المصري. رغبت بريطانيا (وقد قرّرت الانسحاب من فلسطين) في إقامة توازن بين العرب واليهود. لم تكن أيٌّ من الحربين إضافةً إلى تاريخ العسكرية المصرية، ولا إلى مكانة مصر في الإقليم. العكس صحيح؛ الحرب في السودان وتوريط المصريين ليكونوا أدواتٍ في يد الحكم الاستعماري للسودان أوجدت حزازات ومرارات كامنة في نفوس الأشقّاء في السودان فشل الزمن في محوها. كان الإنكليز يكلّفون المصريين بالمهام المباشرة في الاحتكاك مع السودانيين ويتوارون هم في الخلف، فكانت كراهية السوداني المظلوم تنصبّ على المصري، الذي يبدو في الواجهة ظالماً، وليس على الظالم الحقيقي الذي يرقد خلف الستار.
عشرون سنة مرهقة (1955 - 1975) كانت لحظة صعود تاريخية لمصر ذاتياً وإقليمها وعالمياً
كذلك كانت حرب فلسطين 1948، كشفت خواء الدولة المصرية وفساد الإدارة وتحلّل النظام الملكي واهتراء النظام شبه الليبرالي شبه الديمقراطي، الذي أعقب ثورة 1919، واستمر ثلاثة عقود في ثياب الاستقلال، بينما الاحتلال واقع فعلي في ثوب الديمقراطية الليبرالية، ولا يختلف الملك فاروق طاغيةً في شيء عن أجداده الطغاة، من الباشا المؤسّس حتّى جَدّه إسماعيل، ثم والده فؤاد. كان الفارق الوحيد أنّه طاغيةٌ من نوع مختلف عن أجداده، يخلو من أيّ موهبة أو حنكة أو حزم أو استعداد فطري أو مكتسب لإدارة بلد مهمّ، والتعامل مع إمبراطورية جبّارة، وفهم تحوّلات عاصفة.
لكن، من مفارقات التاريخ العجيبة أنّ هذه الخمسين سنة، أي النصف الأول من القرن العشرين، تظلّ أزهى عصور مصر الحديثة، مثل النصف الأول من القرن التاسع عشر، عصر محمد علي باشا، الذي وحّد مركز السلطة، أنهى تعدّد مراكز السلطة بين فرق المماليك، كان من هذه الزاوية فرعوناً عظيماً، قدّم مصر لزمانها وعصرها بعد أن انتزعها من فوضى القرن الثامن عشر، ثمّ رسم لها بوصلتها التي ينبغي أن تكون، وهي السباق مع أوروبا بأدوات أوروبا، طاغية مستنير لم يتسامح في شأنٍ يخصّ مركزية السلطة وقوة الدولة، لم يتسامح مع طرف محلّي كما لم يتسامح مع طرف أجنبي. كائن سياسي عبقري بالغريزة سجّل اسمه بين عظماء التاريخ في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وحّد مصر، ثمّ وظّف إمكاناتها وقدراتها في تأسيس إمبراطورية مساحتها عشرة أضعاف مساحة مصر ذاتها. وبقدر ما كانت مصر عظيمةً في النصف الأول من القرن التاسع عشر، انقلبت العظمة إلى نقيضها تحت حكم خلفائه من سلالته وذرّيته، حتّى فقدت إرادتها، ثمّ حرّيتها، ثمّ صارت مُجرَّد مستعمرةٍ أوروبيةٍ القرار فيها للمحتلّ وليس خلفاء الباشا فيها غير أدوات لا تملك من أمرها، ولا من أمر مناصبها، ولا من أمر البلد الذي تحكمه، قليلاً ولا كثيراً.
كذلك الحال في القرن العشرين، مفارقات عجيبة وتناقضات غريبة. النصف الأول من القرن العشرين هو الأزهى والأبهى من النصف الثاني من ذاك القرن. حدث ذلك رغم أنّ مصر عانت في النصف الأول وحشية الاحتلال، وتسخير مواردها لصالح الاحتلال في الحربين العالميتَين الأولى والثانية. رغم ذلك، كانت استجابة المصريين لتحدّيات الاحتلال ووحشيته وحروبه مبهرةً، فأسّسوا الأحزاب والنقابات والجامعات والمسرح والرواية والترجمة، واستوعبوا علوم الغرب، وحقَّقوا وأعادوا نشر تراث العروبة والإسلام وأنجزوا ثورةً عظيمة 1919، ثمّ شيّدوا دستوراً، ثمّ تطلعوا إلى بناء ديمقراطية برلمانية حقيقية، بدأوا منكفئين على الهُويَّة الوطنية المصرية، ثمّ مع الخطرين الاستعماري والصهيوني انفتحوا على محيطهم العربي، وأعدّوا لبناء هُويَّة عربية حديثة كانوا فيها نموذجي الأصالة والحداثة، من دون شعارات قومية عربية، ومن دون أيديولوجيا زاعقة. نجحت مصر في النصف الأول من القرن العشرين في أن تكون عاصمةً لأحرار العرب وقِبلةً لمثقّفيهم وبيتاً لفنانيهم، احتضنت فكرة العمل العربي المشترك، وأسّست فكرة الاستقلال والتحرّر من الهيمنة الغربية بالمعنى الواسع للتحرّر، فرفضتْ فكرةَ الأحلاف الغربية، كما رفضتْ فكرةَ أن يتولّى الغرب مهمّات الدفاع عن الشرق الأوسط تحت مزاعم حمايته من الخطر الشيوعي.
ليست هذه هي الصورة كلّها. لم يكن النصف الأول من القرن العشرين (رغم أنّه الأزهى والأبهى) مثل النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن يخلو من إعاقات كبرى وعاهات مستديمة انتهت به (في خاتمته) إلى مأزق عميق عقيم صعب الخروج منه إلا بتغيير جذري، لم يكن قادراً على تطوير نفسه من داخله. دخل الجيش حرب فلسطين بقرارٍ غير مدروس ومن دون استعداد، فكانت هزيمته لا هزيمةً للعسكرية المصرية الملكية الحديثة فقط، في أول اختبار ميداني لها بعد 50 سنة من آخر حرب خاضها تحت قيادة الإنكليز في السودان عند خاتمة القرن التاسع عشر، بل كانت هزيمة الجيش في فلسطين هزيمةً كاملةً للمشروع شبه الليبرالي شبه الديمقراطي، وهو في الحقيقة طغياني فردي مطلق. كما كانت هزيمةً لمشروع الاستقلال الشكلي الذي أنجزته ثورة 1919، وتحته أنجزت ما سبقت الإشارة إليه كلّه من منجزات جعلت مصر واحةً حديثةً في الشرق الأوسط. هزيمة الجيش كشفت فساد الملك وخواء طبقة الحكم وفساد السياسة، وقد عجز هؤلاء جميعاً عن الاستجابة لهذا التحدّي العاصف. فجاءت الاستجابة من داخل الجيش ذاته، فعصف بالملك، وأسقط المَلَكية، وأنهى (إلى الأبد) حكم السلالة العلوية، ونسف الطبقة القديمة، وأسّس الجمهورية، وأعاد حرث المجتمع ذاته وهيكلته رأساً وعقباً، وحصد ثمرات الاستقلال سهلة جنيةً دنيةً ناضجة ميسورة، حصدها بعد أن كافحت لأجلها الأجيال من المصريين سبعة عقود، حصدها في لحظة كان الاستعمار ذاته في لحظة غروب تام، كان الإنكليز قد خرجوا من الهند التي بسبب مصلحتهم فيها احتُلّت ثمّ استُعمرت مصر، ولم يعد لهم ضرورة للبقاء في مصر بعد خروجهم من الهند درّة التاج البريطاني.
يرى المصريون في الخمسين سنة الماضية من تاريخ مصر حقبةَ انسحابٍ تدريجي من الدور والرسالة والتاريخ
في مفاوضاتهم مع رجل الدولة الواقعي إسماعيل صدقي 1946 كان الإنكليز قد اتفقوا على الجلاء عن مصر في موعد أقصاه 1949، لكن حزازات اللعبة الحزبية أفسدت الاتفاق، فكان سهلاً على الحكّام الجدد (الضبّاط الأحرار) التوصّل إلى اتفاق الجلاء 1954 تقريباً بمثل شروط مشروع الاتفاق، الذي كان قد توصّل إليه صدقي مع الانكليز 1946. كان الإنكليز ومعهم الأميركان قد فقدوا الثقة في النظام الملكي وفي الطبقة القديمة، فلم يعترضوا سبيل الضبّاط الأحرار، بل وفّروا لهم سبل التيسير في أيّامهم الأولى، كان عشم الإنكليز والأميركيين أن يوافق الضبّاط على ما لم توافق عليه الطبقة السياسية القديمة، وهو سلام مع الدولة اليهودية الوليدة، والدخول في الأحلاف الغربية للدفاع عن الشرق الأوسط ضدّ الخطر الشيوعي، وهو العشم الذي خاب أمله، فتجدَّد الصراع بين الغرب والضبّاط الأحرار بأشدّ ممّا كان في عهد الطبقة الأرستقراطية القديمة.
من عدوان إسرائيل على غزّة 1955، حتّى اتفاق فضّ الاشتباك الثاني 1975، عشرون عاماً عاصفةً، حارب المصريون عسكرياً وسياسياً وأيديولوجياً، حاربوا في الداخل والخارج، حاربوا الدولة اليهودية، كما حاربوا الاستعمار، وحاربوا الرجعيات العربية والشرق أوسطية. كانت عشرين عاماً مرهقة، لكنّها كانت لحظة صعود تاريخية لمصر في ذاتها وفي إقليمها وفي العالم.
لم يحارب المصريون على مدى أكثر من نصف قرن أو يزيد من 1973 - 2024، لا حرب، لا احتلال، لا استعمار، لا إرهاق تاريخي من أيّ نوع، ولا اضطلاع برسالة خارج حدودها ولا داخل ذاتها من أيّ نوع. أضف إلى ذلك ما تدفّق إليها من عوائد المصريين العاملين في الخارج، الذين انتشروا في أركان المعمورة منذ أن وضعت الحرب أوزارها في خريف 1973، فضلاً عمّا حظيت به من مِنَح ومعونات ومساعدات دولية لا حدود لها. رغم ذلك كلّه، فإنّ آخر خمسين سنة من تاريخ مصر هي الأسوأ من وجهة نظر المصريين، يرونها حقبةَ انسحاب تدريجي من الدور والرسالة والتاريخ، وهو ما انتهى ببلدهم وبهم إلى نوع من اضمحلال حضاري كامل وشامل، فباتوا ينظرون بحنين جارف، قليله صواب وكثيره زائف، إلى أحقاب تاريخية سابقة بما فيها عهود الاستعمار. ويبقى السؤال، لماذا وصلت مصر في الخمسين سنة الماضية إلى ما وصلت إليه؟