الجنسانية الحديثة... المفهوم والمآل

15 نوفمبر 2022

(زكريا الزيني)

+ الخط -

يقوم تفسير مصطلح الجنسانية في تاريخ الجدل العالمي الحديث، والمشتبك بتاريخ الأمم الغابرة، على مسارين: الأول النوع البيولوجي لتحديد نوع الفرد. ومصطلح الفرد هنا أو الإنسان يُقذَف اليوم في مرحلة غموض شرسة، لم تستقرّ على حالة محدّدة، وهو جزء من الفوضى الهدّامة التي تعيشها القرية البشرية، لا مرجع علمياً لها ولا أصول أخلاقية ولا ميراث بشريا مستقرا، كان متزامناً مع رحلة الكون والطبيعة.
والمؤمنون برحلة هذا الكون بشقيهم من آمن بالدين السماوي، أو الروحي التقليدي، أو من لم يؤمن بدين، لكنه متيقن من تراتبية هذا العالم، ودور الفطرة فيه، أي ما فُطرت عليه الأرض، في ذات الإنسان كما هو في الطبيعة، كالأشجار والأنهار والجبال وحركة الفلَك والكواكب الكونية. ومن الغريب أنك تجد أن هذا الجمع الحاشد من أمم الأرض ومن علماء الأحياء والطبيعة، وووو..
هم في المدار الأضعف من حيث منصّات التأثير الإعلامي والسياسي والاجتماعي، فالفريق الآخر الذي يؤمن أو يتبنّى، تفجير مفاهيم التكون الطبيعي والبيئي في تعريف الذات الإنسانية، هو الذي يملك اليوم مؤسّسات القهر العالمي، سواءً في مشاريع الدول الغربية المركزية، أو في مؤسّساتها العالمية، كالأمم المتحدة ومنظومات الاتحاد الأوروبي، ومنظمات المجتمع المدني الغربية، وميزانيات الدعم المشروطة على العالم الثالث وغيرها.
إذن، نحن في الشق الأول في تعريف جدل الجنسانية، الذي أشرنا فيه إلى معايير الفوضى، والتطور التائه في هجومه الحداثي وما بعد الحداثي، بين مسارين، لا يفرّقهما دين ولا قومية بالضرورة، وإن تكتل الطرف الآخر في القوة الغربية وعالمها، فالأمر هنا ما بين المؤمنين بالإنسانية الفطرية، لوجود البشر وطبيعتهم الأصلية أطفال يولدون ذكراً وأنثى، لا يسقط ذلك بعض التشكّلات النفسية، لأسباب اضطراب هرموني، أو طارئ سلوكي، أو حتى تغيّر في العضو الجنسي، لحالة جينية أثّرت على صفة الفرد وطبائعه، يتم التعامل معه في إطار أخلاقي حقوقي.
في حين يجرّف الطرف الثاني هذه المفاهيم، ويقرّر على سكان الأرض، أن هذه الذات البشرية أو المادّة بحسب وصفه، التي تشكّلت ثم تحوّلت لإنسان، صنعتها مفاهيم ثقافية توالدت مع التراث القديم لشعوب الأرض، وتم تعريف هذا بالذكر وذاك بالأنثى، عبر منهج تقليدي خاطئ، بحسب زعم مدرسة الجندر الجنساني الحداثية. فلا ذكر وُلد في هذا العالم ولا أُنثى، وحتى تخلّق الأعضاء الجنسية، محال لديهم في مساحة غامضة، تجمع بين تطوّر غامض، بناء على الميراث البشري المشترك لكل شعوب الأرض، وبتدخل البيئة القهرية للأسرة، أي الأبوين اللذين أخضعا الطفل بناء على تخلقه البيولوجي.

جماعات تنخرط في الدفاع عن حماية البيئة الطبيعية في الزراعة والفضاء، وفي الوقت نفسه، تسعى إلى هدم البيئة الاجتماعية وتلويثها

وما نقرّره هنا وننقله، ليس خلاصات لإعلانات جمعيات المثليين وفعالياتهم فقط، ولكن يوضع له فلسفة تأصيل وتعريف يُعمَل على تثبيته أكاديمياً، وتتعامل معه مؤسّسات طبية لمصالح رأسمالية، لا تخضع لميزان النقد العلمي والفكري، فضلاً عن التاريخ الاجتماعي لكوكب الأرض. والغريب لدي هنا أن هذه الجماعات تنخرط في الدفاع عن حماية البيئة الطبيعية في الزراعة والفضاء، وفي الوقت نفسه، تسعى، بكل قوتها، إلى هدم البيئة الاجتماعية وتلويثها، وتدمير حياة الأسرة والطفولة.
أما المسار الثاني لتحرير هذا المصطلح (الجنسانية)، فهو الطبع المتشكّل في ذات الفرد، في الغريزة الجنسية. نلاحظ هنا أن تخلّق الأعضاء في كل من الذكر والأنثى، يتطابق كلياً مع مفهوم تحويل هذه الغريزة أو الحاجة الطبيعية في الإنسان، لتتكامل مع الطرف الآخر، وأن الميول التاريخية لكل منهما، فضلاً عن التناسل البشري الذي عبره وحده، استمر الخلق يتوالدون في المعمورة، كلها تعطي هذا الانسجام التطابقي بين الذكر والأنثى.
وهناك شرعيتان حول هذا المفهوم شرعية التوالد والتجاذب الطبيعي الذي تؤمن بها الشريحة الأولى التي وصفها مطلع المقال، وتشمل كل من يؤمن بهذا التخلق البيولوجي، وإرثُ البشرية الأخلاقي في تكوّن الأسرة، بغضّ النظر عن شرعية العلاقة بين الذكر والأنثى بحسب اعتقاد كل فئة، والشرعية الثانية هي شرعية الدين أو الاعتقاد الإيماني، من أن هذه العلاقة الجنسية يجب أن توضع في منظومة العلاقة الزوجية، وهي مسألةٌ لا تخصّ المسلمين وحدهم، بل تشمل ديانات وأخلاقيات عديدة.

عمل مشروعٌ أو مطلوبٌ مرحب به، ويتم التبرير له إعلاميا وسياسياً، فضلاً عن جنايته في استهداف عالم الطفولة

ولكن كلا من هاتين الشرعيتين يتعرّض لتجريف شرس، ويتم التدخل في علاقاته الخاصة، ويفرض عليه التفكير بطريقةٍ معاكسة، بأن يُزهّد في الأنثى زوجةً أو صديقة، وأن يتحوّل إلى الذكر الآخر، أو تتحوّل تلك الزوجة الى الأُنثى الأخرى، لا حظّ هنا في أدبيات القهر المثلي وأيدولوجياته، أن هذا العمل مشروعٌ أو مطلوبٌ مرحب به، ويتم التبرير له إعلاميا وسياسياً، فضلاً عن جنايته في استهداف عالم الطفولة، في حين القضية التي تبرُز لعلاقة رجلٍ مع امرأة أخرى خارج إطار الارتباط أو الزوجية لغرض الجنس، يجري التعامل معها كفضيحة، وهي فضيحة بالمنطق الأخلاقي، وإن كان للإسلام مفهومه الخاص في الستر، لسنا في صدد عرضه الآن.
لكن هذه الموجة الإعلامية والسياسية الطاغية لترويج ثقافة الجنسانية الحداثية وفوضاها، تقلب المفاهيم وتعطي شرعية دولية مزعومة، وتُسقط أخرى بناء على تفسيرها الغامض، وغير المبرّر علمياً، فكيف وصلت كرة الثلج المتدحرجة إلى هذا المستوى من القهر العالمي، ثم أين هو الموقف الأخلاقي من الزوج أو الزوجة، التي عاشت حياتها الجنسية مع زوجها وأطفالهم، ثم خرج عليها، بناء على ضغط الضجيج الإعلامي ونشوته يعلن انضمامه لأندية الفخر، بأنهُ كان مثلياً ولم يكتشف وضعه إلا اليوم، هل هذا يعني أنه كان في علاقة عار؟
لاحظ هنا أننا نطرح هذه المسارات ليس في مقام التتبع لحالات المثليين، ولكن في تدخل مشاريع الجنسانية في العالم الحديث، في علاقات الأسرة الخاصة، وفي حضن الطفولة الأول، فمن هو المعتدي على الكرامة البشرية والسكينة الزوجية في العالم؟

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل