الجمعة السوداء والتمارين على الاستلاب
أن تصبح مناسبةٌ تسويقيةٌ، من قبيل الجمعة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية، مادّة للإعلام يترقبها قبل حدوثها ثم يتناقل حوادثها في النشرات الإخبارية الرئيسية، لهو دليل على طغيان هذه المناسبة وفرادتها، من جهة، وغرابة السلوك الإنساني لدى المشاركين في إحيائها، من جهة أخرى. وتعيد هذه المناسبة التأكيد على استمرار طغيان ثقافة الاستهلاك على جزء كبير من البشر. كما أن إحياء المناسبة ودفع الناس إلى التحشُّد ساعات طويلة أمام واجهات المحلات، على الرغم من خطورة ذلك في ظل جائحة كورونا، واقتحامها بشكل هستيري لدى فتح الأبواب، يؤكّد أن ثقافة الاستهلاك اليومي وعملية استلاب العقول ما زالتا أقوى من التحدّيات المصيرية الكبرى التي وقفت أمامها البشرية في السنتين الأخيرتين، بعد أن هدّد فيروسٌ مجهري وجودها على هذا الكوكب.
وكان لافتاً في سياق إحياء مناسبة الجمعة السوداء، الأسبوع الماضي، أن الناس وصلوا إلى مرحلةٍ من الاستلاب العقلي إلى درجةٍ يغامرون فيها بحياتهم من أجل اقتناء جهاز تلفزيون أو هاتف نقّال أو غيرهما من السلع. وليس ذلك بدافع الحاجة بقدر ما هو بدافع البروز والتميُّز. وهذا التميّز مردّه الفروق الطبقية والاجتماعية التي تجعل الفئة الأقل دخلاً تحاول التمثّل بالفئة الميسورة، عبر اقتناء ما يجعل مظهرها قريباً من مظهر تلك الفئة. ولا سبيل أمام كثيرين للتميز سوى عبر السلوك الاستهلاكي الذي يغير في مظهرهم الخارجي، سواء في الثياب أو الطعام، أو حتى عبر عمليات التجميل التي بات يخضع لها أناس من الجنسين.
في هذا السياق، يلجأ كثيرون إلى عمليات التجميل بعد أن يتبيّن لهم أن السلوك الاستهلاكي الذي يبرز عبر ارتداء الثياب الفاخرة أو اقتناء السيارة وغيرها من السلع، لم يعد يجلب لهم التميز فيلجأوون إلى الاختلاف، عبر تغيير شكل الأنف أو نفخ الشفاه أو الوجنتين، وأعضاء أخرى في الجسم. وعلى الرغم من أن عمليات التجميل تؤدّي إلى تقبيح بعض الأوجه بدلاً من تجميلها، وعلى الرغم من أنها تجلب التماثل في الشكل بين كثيراتٍ بدلاً من الاختلاف، علاوة على تكاليفها الباهظة، إلا أن الإصرار على إجرائها بات مرضاً يلحق بصاحبتها ويجعلها مجبرةً على التردّد الدائم على عيادات التجميل لترميم ما يمكن أن يتهتَّك.
تعمد الشركات الكبرى إلى تمجيد ثقافة الاستهلاك، والكلام عن ثورة الاستهلاك
وأتت مناسبة الجمعة السوداء مرة أخرى في ظل جائحة كورونا، وما أفرزته من متغيراتٍ أجبرت كثيرين على التفكير في جدوى وجودهم، وفي سبل حماية هذا الوجود، من جهة إيلاء الصحة المزيد من العناية على حساب الاستهلاك وشراء المواد غير الضرورية. وبدلاً من ذلك، ثبت أن المخاطر التي واجهتها البشرية بعد انتشار الفيروس لم تغير في عقلية الاستهلاك لدى نسبة كبيرة من أبناء المجتمعات الرأسمالية، أو تدفعهم إلى التفكير ومراجعة موقفهم من ممارسات الشركات الرأسمالية وتوظيفها الدعاية من أجل ربط المستهلين بمنتجاتها، وسلب مدّخراتهم التي تدهورت في ظل الجائحة. وأحد أشكال هذا السلب طرحُ نسخٍ جديدة من سلع متوفرة لدى الجميع، مع تضخيم بعض الإضافات القليلة التي لن تغيّر من جودة المنتح، إلى تلك الدرجة الفارقة التي تدفعهم إلى رمي المنتج الذي يملكونه واقتناء الجديد. ويتحمّل هؤلاء المستهلكون المسؤولية الكبيرة عن استمرار تحكّم هذه الشركات بهم، وعن سلبها نقودهم ومدّخراتهم. ويحصل هذا الأمر في وقتٍ زادت فيه أرباح الشركات الرأسمالية، حين توقع كثيرون أن تتراجع بسبب الإغلاق والتقييد، أو بسبب ضرورة توجّه المستهلكين إلى نمط حياة مختلف عن الذي جعلهم لقمةً سائغةً للفيروس، بسبب قلة مناعتهم الناجمة عن تضحيتهم بالتغذية الصحية مقابل السلع التي تبرز مظهرهم المختلف.
ولا تُستثنى الدول العربية من طغيان نزعة الاستهلاك على عدد كبير من مواطنيها، إذ تشهد الأيام التي تسبق حلول شهر رمضان هستيريا استهلاكية تسيطر على الناس، فتجعلهم يتوجّهون إلى الأسواق لاقتناء سلعٍ ومواد غذائية، تفوق حاجاتهم أضعاف ما يستهلكون خلال هذا الشهر المفترض أن يكون شهر صيام عن الطعام، لا شهر زيادة في استهلاكه. كما تشهد مناسبات إطلاق أجهزة هواتف نقالة في الدول العربية الأمر نفسه من تجمع الراغبين في اقتناء الأجهزة الجديدة ساعات طويلة، أمام مراكز التوزيع، حتى تحين لحظة الإيذان بالبيع. وكانت المفارقة أن سورية شهدت أمراً من هذا القبيل، حين جرى إطلاق نسخة جديدة من أحد طُرز الهواتف النقالة في العاصمة دمشق، قبل سنة. يومها احتشد المئات أمام مركزٍ للبيع ليلاً وسط البرد، كما تهافتوا لشرائه في الأيام التالية، في وقتٍ كانت البلاد تشهد فيه تردياً غير مسبوق على الصعيد الاقتصادي، علاوة على أن سعر الجهاز كان يعادل راتب موظف لسبع سنوات.
شركات كبرى ليس المستهلك بالنسبة لها سوى أداة لزيادة الربح الذي تزيل في طريقها إلى الوصول إليه كل القيم الرادعة
وإمعاناً في إخضاعها الزبائن والمستهلكين، تعمد الشركات الكبرى إلى تمجيد ثقافة الاستهلاك، والكلام عن ثورة الاستهلاك. لذلك تجمِّلها بالإيهام بمتعة التسوق وتكريس هذه الثقافة، وإبراز وهم تلك الثورة بأنها الثورة الوحيدة الحقيقية، والمتعة الوحيدة الملموسة في ظل انحسار الرغبة في اكتساب الثقافة، وتراجع شروط المثاقفة وأشكالها، والذي انعكس تراجعاً في النشر، سواء على صعيد نشر الكتب والصحف والدوريات الأدبية والفنية التي كانت السبيل لنشر الآداب والفنون المختلفة، وما كانت تُحدثه من غبطة وسموّ في أنفس المتلقين. وتحول الجميع إلى الحصول على تلك الغبطة وذلك الفرح الآني عبر الشراء والمزيد من الشراء من المستودعات الكبرى، والترفيه عن الأنفس باستهلاك المنتجات التي تروّجها، والجلوس في المطاعم التي توفر فيها الوجبات السريعة التي غالباً ما تحمل الضرر لمستهلكيها.
من هنا، يطرأ التساؤل الضروري التفكر به، وهو إذا لم تدفع جائحة كورونا وحقيقة ظهور متحورات جديدة قد لا تفارق البشرية في غضون سنوات، وفي ظل تهديدها الجدّي الحياة، إذا لم تدفع هذه الوقائع الأفراد في المجتمع لتغيير نمط تفكيرهم وتغيير سلوكياتهم توخياً للبقاء، فما الذي يمكن أن يدفعهم؟ يكمن الجواب في عملية استلاب العقول التي تتبع الشركات الكبرى كل السبل من أجل فرضها، إذ لا يشكل المستهلك بالنسبة لها سوى أداة لزيادة الربح الذي تزيل في طريقها إلى الوصول إليه كل القيم الرادعة.