الجزّار "صاحب السعادة" في غرفة الإنعاش الدولي
كانت عملية إرجاع كلّ ما للدولة السورية إلى النظام الحاكم بعد عام 1963 قد وجدت دعماً من قوى العالم الكبرى كلها، ولم تُسمَع نأمة اعتراضٍ أو تشكّك من أيّ طرف، ولا حتى من اليسار العالمي. وهل يخفى على أحدٍ أنه قد جرى تعميد بشّار الأسد وريثاً لأبيه بمباركة العالم بأسره، أيضاً من الدول العربية التي إما هي ممالك وراثية من قبل، أو وجدت في السابقة الأسدية شيئاً سوف يحاول الاستنادَ إليه رؤساؤها المعمّرون بعد حين!. تأسيساً على ما تقدّم، فإنّ خطة جرّ سورية بسرعة كبيرة نحو القاع، عوداً إلى أزمنة مأساوية كان يفترض أنها طُويَت، غيرُ منقطعة الصلة بهذه الرعاية الأممية. وعليه، فإنّ خروج نظام الأسد، الذي أنجز المهمّة بنجاح، ببطء من العزلة الحالية، إنما هو إبراز لحقيقةِ أنّ القوة خيارٌ صالحٌ للغاية لقمع التهديدات، ما يضع نموذجاً لكيفية النجاة حتى في أسوأ سيناريو لانتفاضة شعبيةٍ شاملة لو نجحت في قلب هذه المعادلة لفقدت الدولة البوليسية مصداقيّتها، وكذلك الاستبداد الاقليمي بشكل عام.
عطفاً على ذلك، بقي نظام الأسد نموذجاً استثنائياً فيما يُعرف بثورات الربيع العربي، لاعتباراتٍ عدّة، أهمها أنّ بنية النظام لم تُفرز شخصياتٍ قيادية يمكنها لعب دور بارز في مواجهته، لا بل قطعت الطريق على أيّ شخصيةٍ حاولت أن تبني حيّزاً لها في مستقبل البلاد، وذلك وسط الرهان على تركيبة المجتمع المعقّدة ووجود انقسام عرقي وطائفي بين المكوّنات السورية، التي رأت في النظام الحاكم حامياً لها، خصوصاً مع تصاعد دور التنظيمات الإسلامية والجهادية. مهّد هذا كله للأسد حصوله، في النهاية، على "سورياه المتجانسة والمفيدة"، مطمئناً "جماهيرَه" بأنه قد ربح بلاداً "أكثر صحةً وأكثر تجانساً بالمعنى الحقيقي، وليس بالمعنى المجازي أو بالمجاملات!". طبعاً، يعكس هذا الكلام الإنشائي الذهنية الرجعية لنظام قائم على الخبث والكيد والعنف والفساد، أدّى إلى ارتداد المجتمع السوري منزوع السياسة إلى "مجتمعاتٍ أهليةٍ متناحرة". ويلزم، في المقابل، أن نلاحظ أنّ الأسد توسّع في الاستئثار بالسياسة عبر سنوات الحرب بصورةٍ تتناسب مع خروجه من الساحة السياسية الدولية وفقدانه السيادة.
نجاة النظام واستعادته عافيته بعد الحرب نكتة سمجة أخرى، فأيّ "نجاة" يمكن أن تكون محفوفة بهذا القدر من انعدام السيادة، ومشروطة بغاراتٍ يوميةٍ وبنزاع بين احتلالين؟
هذا الوضع المتمادي في بلادٍ تُمعن في العزلة والفقر السياسي والمادي، ومنع المستقبل من القدوم عبر تأبيد الحاضر، يجعلنا نسلّم يقيناً أنّ زيادة "توحّش القوة" بعد عام 2011 لم يكن فقط امتداداً للوظيفة المنوطة بها منذ ثمانينيات القرن الماضي، بل كانت شكلاً من إعادة رسم وظيفتها للإبقاء على الوضع الحالي المأزوم، الذي لم يعد يتضمن فعلياً العنف المباشر الفاضح، إنما بات العنف الرمزي أكثر ملاءمةً للمستجدّات السورية، والذي لا يقلّ عنه من حيث الجدوى في الضبط والسيطرة. وطبعاً الوسائل متعددة وجاهزة، ليس بداية بإقرار برلمان النظام السوري مرسوماً ينصّ على منح أحقية امتلاك سلاح حربي لمن أراده، وبرخصةٍ تصل إلى عشر سنوات، في خطوة وصفت بأنها "تزيد الطين بلّة" في بلد يعاني أصلاً من انتشار المافيات. ولن يكون آخرها بالطبع أنه، وعند إطلاق حملة "فزعة أهل الخير" في درعا، أن حكومة الأسد سعت إلى نسب الفضل إليها في تلك الحملة، مطالبة بالحصول على نسبةٍ من التبرّعات التي خصَصت لإعادة تأهيل البنى التحتية في المحافظة، في خطوة واضحة لمنع تبلور حركة شعبية موحّدة إزاء "فزّاعات" النظام المافياوية.
في السياق، قال مدير برنامج سورية ومواجهة الإرهاب في معهد الشرق الأوسط، تشارلز ليستر، إنّ الحديث عن انتصار الأسد في الحرب الدموية التي استمرّت قرابة عقد بات معروفاً في كلّ ما يُكتب عن النظام. وبحسب خبراء وسياسيين، استفاد الأسد من تقاطع عوامل داخلية، أبرزها تحكّمه بالقوات الأمنية والعسكرية، وخارجية في مقدمها تلكؤ الغرب في استخدام القوة ضده، مقابل دعم عسكري حاسم من حلفائه. بالتالي، لن يكون ذا بال كثير إصدار صحيفة ليبراسيون الفرنسية عددها الجديد بصورةٍ للأسد واصفة إياه بالجزّار الذي عاد إلى الواجهة الدولية بعد أكثر من عشر سنوات قضاها في عزلة سياسية ودبلوماسية كاملة، مشيرة إلى محاولة بعض الدول، وفي مقدمها تركيا، بمحاولة التطبيع معه. وبعنوان "بشار الأسد.. الجزّار صاحب الجلالة". وكتبت الصحيفة إنّ الديكتاتور السوري بدأ بالفعل في استعادة نفسه لدى بعض البلدان.
في المقابل، ثمّة تشكيكٌ في مدى جدّية تأكيد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، رفض واشنطن، بشكل قاطع، أيّ محاولات للتطبيع مع النظام السوري، في إشارة إلى خطوات التقارب التي اتخذتها أنقرة أخيرا، بدليل أنه، وبينما كانت الدول الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، تشدّد على ضرورة تنحّي الأسد، انصبّ اهتمامها أخيراً على التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ من بوابة اللجنة الدستورية. بالتوازي، تبدو إسرائيل حريصة على عدم توجيه ضربات قاصمة للنظام في سورية، بينما تواظب على منع إيران من بناء منظومةٍ هجومية فيها. وبهذا المعنى، تغدو إسرائيل جزءاً من توازنات الأزمة السورية، فعبارة "الردّ في الزمان والمكان المناسبين" لطالما سيقت نكتة، لكنها تُساق اليوم بوصفها مأساة الممانعة وجرحها النرجسي. وهنا تبدو مقولة نجاة النظام واستعادته عافيته بعد الحرب نكتة سمجة أخرى، فأيّ "نجاة" يمكن أن تكون محفوفة بهذا القدر من انعدام السيادة، ومشروطة بغاراتٍ يوميةٍ وبنزاع بين احتلالين.
النظام السوري المتجذّر كسرطانٍ في عروق البلاد سيصعُب اقتلاعه في المدى المنظور
الغارات الإسرائيلية ضرورة لبقاء الأسد، مثلما هي شحنات الأسلحة من إيران، وكذلك القواعد العسكرية الروسية. وطبعاً، ضرورية أيضاً معامل الكبتاغون الممتدة على طول "سورية المفيدة". يعوّل النظام السوري على دور أكبر للدول العربية ولروسيا لحشر إيران، فهناك فرصة أمام بشّار الأسد لإعادة بعض التوازن الذي برع به والده إقليمياً بدل أن يحوّل سورية إلى محافظة إيرانية. يرجّح ذلك كله حراكاً ديبلوماسياً في الملف السوري، على وقع ارتجاجات إيران وانفتاح أردوغان على دمشق من باب موسكو. فهل يستفيد الأسد من الفرصة أو يهدرها كما أهدر رصيد والده منذ العام 2000؟.
وعليه، النظام السوري المتجذّر كسرطانٍ في عروق البلاد سيصعُب اقتلاعه في المدى المنظور، فأساس شرعية الأسد كان ما رُوّج دولة ممانعة لإسرائيل، ودولة عروبية تنادي بوحدة الأمة وحريتها. وقد وجّهت هذه الشرعية الشكلية إلى العرب وفُرضت على السوريين. شرعية مبنيّة على شعاراتٍ لم تتعدَّ الملصقات والمايكروفونات، شعارات كانت تغطّي قبضة أمنيّة متحكّمة بالدم والحديد. أما الضحايا فهم مجرّد أدوات أو عقبات، كان لا بدّ من التخلّص منها. نافل القول إنه مهما ستكون مآلات الوضع السوري سيبقى انتصار الأسد الوحيد في جرّ سورية نحو الأسوأ بطريقةٍ تجعل الأزمة تمسّ كلّ مفصل من مفاصل الحياة السورية، وبطريقةٍ لا يمكن لأحدٍ تخيلها، ما يفتح المجال لبؤسٍ جديد ولنشوء دولةٍ فاشلة، ما يعني كارثة إنسانية تجعل البلاد أرضاً خصبةً لتفريخ المجاعات والكوارث وزعزعة الاستقرار. وليس أدلّ على ذلك سوى الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية أخيرا، فبينما توجّه العالم بأسره لنجدة الأتراك، لم يعطِ شأناً كبيراً للكارثة السورية في بلاد جعلها الأسد جحيماً ملتهباً يهاب الجميع الاقتراب منه.