الجرائم الإسرائيلية والذاكرة المصرية
ليست عطلة عيد الأضحى سبب غياب أي تعليقٍ مصري حكومي، أو شبه حكومي، على ما أورده تحقيقٌ صحافي مفصّل في "يديعوت أحرونوت" عن حرق المحتلين الإسرائيليين في غضون الهزيمة العربية في حرب 1967، ما لا يقل عن 20 جندياً مصرياً، في أدغالٍ قرب القدس، ودفنهم بلا شواهد هناك. وليس السبب أن من أعراف الحكومات العربية، غالباً، عدم التعليق على أخبارٍ غير رسميةٍ في وسائط الإعلام. وليس السبب أيضاً وأيضاً أن هذا النبأ غير مفاجئ، بالنظر إلى أن مذابح هائلة ارتكبها المعتدون الإسرائيليون في تلك الحرب، وأن من المعلوم، والمكتوب والمتحدّث عنه، أن هؤلاء دفنوا نحو 60 جندياً وضابطاً مصرياً أحياءً في غضون الهزيمة نفسها في سيناء. وإنما سببُ ما لا تزيّد في اعتباره تجاهلاً مصرياً حكومياً للنبأ المفزع الذي تضمّنه تحقيق يوسي ميلمان، في الصحيفة العبرية العتيدة (تلاه تقرير آدم راز في "هآرتس")، أن حماية ذاكرة مصر، شعباً وأمة، لم يكن يوماً من مشاغل الدولة المصرية، في كل عهودها. هذا أمرٌ مركزيٌّ لدى أممٍ وشعوبٍ عديدة، بل إن دولةً مختلقة اسمها إسرائيل تشيع عن نفسها الذاكرة التي تُريد، ولكنها، في الوقت نفسه، تحتفظ بكل الوثائق التي تدلّ على الحقائق، وإنْ بوجوهٍ مختلفة الروايات والشهود. وهذه "حرب الذاكرة" بين الجزائر وفرنسا لم تُحسَم بعد، وتشتدّ فصولها وتخفت، تعمل باريس، في غضونها، على إشاعة رغبتها في إنجاز "مصالحة الذاكرة". وليس اعتباطاً أن الوفد الذي ابتعثه الرئيس الفرنسي، ماكرون، أخيراً، إلى احتفالات الجزائر بالذكرى الستين لاستقلالها، كان برئاسة المؤرّخ بنيامين ستورا، الذي أنجز، بتكليفٍ من الإليزيه، تقريراً عن مصالحة الذاكرة بين فرنسا والجزائر، انتقده الجزائريون، وعقّب عليه الرئيس عبد المجيد تبّون بأن بلاده لا تقيم علاقاتٍ طيبةً على حساب الذاكرة والتاريخ.
لم تكترث الدولة المصرية، منذ بدء السلام الذي دشّنه أنور السادات، مع دولة الاحتلال، بمسألة الذاكرة، بأرشيف العلاقة المطبوعة بالحروب والتوتر والتربّص. لم تنفتح، بالقدر الكافي، كل ملفّات ما قبل "السلام"، المعلن في 1979، بمعاهدة موقّعة. وبالتوازي، باستثناء جهودٍ فرديةٍ لباحثين ومؤرّخين مصريين (وعرب) مجتهدين، لم نلحظ جهداً مركزياً، استراتيجياً كما يحسُن أن تكون صفته، ينكبّ على بناء سردياتٍ علميةٍ موثّقة للحروب في 1956 و1967 و1973، أمثلة لا غير. وعلى الأهمية الكبرى لما دوّنه محمد حسنين هيكل في "تأريخه" (لم يسمّ نفسه يوماً مؤرّخاً) هذه الحروب، سيما الأولى، وعلى أهمية ما رواه بشأن حرب 1967 (جاء على دفن أسرى مصريين أحياء في سيناء)، إلا أن ما كتبه، وقاله، يبقى ناقصا، وأحداثٌ كبرى من هذه المنزلة تظلّ في حاجةٍ دائمةٍ لأن تكون موضع بحثٍ ونبشٍ وتبصّر، ليس فقط من أجل جلاء الحقائق، كل الحقائق، بل أيضاً لتيسير وصول الأجيال إليها، باعتبارها وقائع تاريخ أمةٍ ووطن. ومن أسفٍ أن التسييس والدعائية وتوظيفات التسويق الأحادية لهذا الرئيس وذاك ظلّت عوامل ضاغطةً أعاقت، ولا تزال، الدرس التاريخي الموثق لغير واقعةٍ ونازلةٍ في مصر (وفي غيرها). ومن أمثلةٍ مشهودةٍ على هذا تلك الأسطرة التي خُلعت على "الضربة الأولى" في حرب 1973، للتدليل على دورٍ خاص لقائد سلاح الجو في غضونها، حسني مبارك، وكذا المرويّات ذات الغرض والهوى في المسلسل التلفزيوني "الاختيار"، بأجزائه، بشأن ثورة يناير وعام رئاسة محمد مرسي وواقعة 3 يوليو.
ما جاء في تحقيق "يديعوت أحرونوت" وتقرير "هآرتس" عن حرق 20 جندياً من الصاعقة المصرية في اليوم الثاني لحرب 5 يونيو 1967 (يصل العدد إلى 80 في "هآرتس") يستدعي، أو يستتبع، بالضرورة، حزمةً من أسئلةٍ، تتطلب الإجاباتُ عنها مجهوداً خاصاً: ماذا جرى بالضبط؟ هل لدى الدولة المصرية أسماء كل هؤلاء الشهداء؟ هل جرى بحث استعادة رفاتهم مع دولة الاحتلال؟ هل علم أهلوهم بكيفية استشهادهم؟ كيف يمكن حماية الجريمة (وغيرها) من النسيان؟ هل من مؤلَّفٍ أو مصنّفٍ مصري يحيط بالجرائم التي اقترفتها إسرائيل في حروبها مع مصر، ضد العسكريين والمدنيين، إحاطةً وافية؟ لماذا لا يُقام أكثر من نصب في سيناء وغيرها لأسماء الشهداء المصريين؟ هل تشتمل مناهج التدريس المصرية على شيءٍ من تفاصيل الجرائم الإسرائيلية؟...؟...؟